
يظل المسرح هو تلك النافذة السحرية التي تكتب العالم بشفافية فنية قل نظيرها، وتخاطب الوجدان الجمعي للبشر، مبشرة بحاضر أنقى وأجمل، فـ«أبو الفنون» كما يعرف الجميع هو ذلك الفن الأدائي الحي الذي يمزج بين مجموعة من العناصر الفنية المختلفة، مثل الحوار والموسيقى والحركة، وينفتح على الماضي والحاضر ويستشرف مستقبل حياة البشر وتطلعاتهم لواقع يبث كل أسباب الخير والحب والأمل.
في ذاكرة المسرح الإماراتي نقف عند أحد العروض المتميزة من حيث الفكرة والطرح ومن حيث الإخراج، وهو بعنوان «الساعة الرابعة» من إنتاج المسرح الحديث في الشارقة، تأليف الكاتب المسرحي الشاب طلال محمود، وإخراج الفنان المسرحي إبراهيم سالم، ومن بطولة عدد من الفنانين الإماراتيين بينهم: فيصل علي، محمد جمعة، وعبدالله محمد وغيرهم.
عرضت «الساعة الرابعة» في الدورة التاسعة والعشرين ضمن مهرجان أيام الشارقة المسرحية في العام 2019، وحصدت في حينه مجموعة من الجوائز: أفضل إخراج للفنان إبراهيم سالم، وجائزة أفضل ممثل / دور أول وذهبت للفنان فيصل علي، وأفضل ممثل دور ثاني وذهبت للفنان محمد جمعة، وأيضاً جائزة أفضل ممثل واعد وذهبت لعبد الله محمد، كما حصدت الفنانة آلاء شاكر جائزة المسرحي المتميز عن ذات العرض.
وسواس
«الساعة الرابعة» هو عرض مستوحى من مسرحية الكاتب الفرنسي لوران بافي (تك تك)، وهو يعرض لشخصيات تعيش كل منها مشكلة مستعصية، أقرب إلى «الوسواس القهري» يجتمعون داخل غرفة طبيب هو الدكتور نادر.
تلتقي هذه الشخصيات، وهي تنتظر موعدها مع الطبيب، في أجواء مشحونة بالقلق والتوتر، حيث نجح مخرج العمل الفنان إبراهيم سالم، في محاكاة الحالات النفسية لشخصيات العمل منذ انفتاح الخشبة على المشهد الأول من العرض في فضاء مغلق تتوسط عمقه ساعة مدلاة يشير مؤشرها إلى الساعة الرابعة إلا ثلث تقريباً، وهنا، يبدأ جمهور العمل في التعرف إلى هذه الشخصيات، من خلال الحوارات ضمن جو يكشف عن مشكلة كل حالة على حدة، والتي تنتهي بإدراك كل من هذه الشخصيات أن الحل ليس في هذا المكان بل في مكان آخر.
الاضطراب النفسي، المشي في الأماكن المخططة، تكرار الكلام بشكل دائم، وسواس النظافة، هي نماذج من الحالات النفسية التي تندرج في إطار «أمراض العصر» التي نادراً ما يتم التطرق إليها على خشبة المسرح، وربما تكون هذه واحدة من علامات الطرح في هذه المسرحية التي كتبها شاب موهوب ويفكر خارج الصندوق.
ذلك أن الوسواس القهري كمرض، هو من الأشياء المستعصية التي يصعب التخلص من آثارها من دون المواظبة على العلاج، وطرح هذه الفكرة ضمن فضاء «أبو الفنون» في أهم مهرجان مسرحي إماراتي، وهو أيام الشارقة المسرحية، يشكل إضافة نوعية لذاكرة المسرح الإماراتي، الذي يفاجئ المشاهدين في كل دورة بأعمال متميزة تأليفاً وإخراجاً وطواقم أدائية وفنية.
مع توالي عرض مشاهد العمل يتعرف الجمهور إلى شخصية فؤاد وهو رجل في نهاية الأربعينات يعاني اضطراباً نفسياً، كما يتعرف إلى جليل وهو رجل في منتصف الثلاثينات ويعاني الوسواس القهري، منال شابة في العشرينات مدربة رياضية مريضة بتكرار الكلام بشكل دائم، وهناك يارا الشابة التي تعمل في مجال التعقيم، ومصابة بوسواس النظافة.
الإخراج
ينجح أي عمل مسرحي في قدرته على طرح الأسئلة، وفي «الساعة الرابعة» كان هذا العرض المسرحي على موعد مع محاكاة درامية إنسانية على تماس مع الواقع الذي يعيشه إنسان العصر الراهن، وعلى موعد مع قدرة «أبو الفنون» في التأثير في نفوس المتلقين سواء كانوا نخباً أم أناساً عاديين، وأمام عمل فني حقق مجموعة من العناصر الجمالية (نصاً وإخراجاً وتمثيلاً) حيث تلتقي شخصيات هذا العرض في عيادة الدكتور نادر لينفذ إلى عمق شخصيات العمل المسرحي، ومن خلال شخصيات مأزومة اجتمعت في فضاء بدا تقليدياً بديكوره البسيط، لكنه مع توالي مشاهد العرض، ونتيجة -ربما- لحوار مؤلف العمل طلال محمود مع المخرج إبراهيم سالم قد نجح وبالتدريج في طرح رؤية فنية حولت المادة المكتوبة في النص إلى عرض مفعم بالمشهدية العالية، والفرجة البصرية على خشبة المسرح.
كوميديا الموقف
لقد كان عرض هذه النماذج من الشخصيات المتفاوتة العمر من خلال ممثلين أجادوا اللغة العربية الفصيحة على الخشبة، من علامات النجاح التي تضاف إلى عرض «الساعة الرابعة»، الذي انفتح على حوارية جسدت الواقع الإنساني بكل ما فيه من تناقضات، كما نجح العرض كما بدا واضحاً في الندوة النقدية التي جمعت أطيافاً مختلفة من النقاد والمسرحيين العرب في تقديم المتعة الفنية المشوبة بالسخرية، حيث نجح العرض في المزج بين التهكم الذي هو أسلوب من أساليب مسرح العبث وبين التعبيرية الفنية التي قدمت شخصيات حية متفاعلة، تنتظر مصيرها المعلق في فضاء السؤال والشكوى، وكان جمهور المسرح الإماراتي في ذلك الوقت أمام عرض قوي، حفر في عمق الشخصيات في قالب كوميدي تعاطف معه جمهور العرض بطريقة لافتة.