أوروبا كقوة مؤثرة | صحيفة الخليج

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


 في ظل التحولات الجذرية التي شهدها النظام العالمي، من أزمات المناخ إلى الحروب ومن الجائحة العالمية إلى التوترات الجيوسياسية، يتجه الاتحاد الأوروبي بصمت ليصبح قوة سياسية ذات طابع فيدرالي في كتابه الجديد «أوروبا القوة العظمى: الثورة الصامتة للاتحاد الأوروبي»، يقدم مارك دي فوس تحليلاً معمقاً لهذا التحول غير المعلن، مشيراً إلى أنه بمقدار ما يحمل فرصاً، فإنه يطرح أيضاً تحديات وجودية للاتحاد ذاته.
يرى دي فوس أن الاتحاد الأوروبي يعيش «ثورة صامتة»، ليس من خلال قرارات كبرى أو تغييرات دستورية معلنة وإنما عبر تراكم السياسات والأزمات التي تدفعه نحو التغيير الجوهري، هذا التحول يتمثل، وفقاً له في انتقال الاتحاد من مجتمع أوروبي قائم على القيم المشتركة إلى تحالف جيوسياسي يضم دولاً أوروآسيوية ومن كيان يسعى إلى تكريس منظومة حقوقية وقيمية إلى اتحاد يسعى لتكريس أدوات القوة والتأثير في النظام الدولي ومن مشروع اقتصادي قائم على السوق الموحدة إلى مشروع سياسي يستلزم بناء مؤسسات دولة تتجاوز الهياكل التقليدية للاتحاد.
غير أن هذا الصعود السياسي، بحسب المؤلف، لا يضمن استدامة القوة ما لم يترافق مع إعادة تشكيل البنية الديمقراطية للاتحاد الأوروبي، فغياب شرعية شعبية واضحة ومؤسسات مساءلة سياسية حقيقية قد يؤدي إلى أزمة مشروعية تهدد استقرار الكيان الأوروبي ذاته وتفتح الباب أمام التشكيك في جدوى المشروع بأكمله، خاصة في حال تعمقت الفجوة بين النخب السياسية والرأي العام.
يقول المؤلف: «الاتحاد الأوروبي كيانٌ ضخم، يتكوّن من سبع وعشرين دولة عضواً ويضم 450 مليون نسمة، إنه ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم، ودوله الأعضاء مجتمعة تمتلك ثالث أكبر ميزانية دفاع على وجه الأرض، بعد الولايات المتحدة والصين. هناك اثنتا عشرة دولة (يبلغ مجموع سكانها 146 مليون نسمة) على قائمة الانتظار الرسمية للانضمام وأكثر من ستين دولة إضافية حول العالم تتمتع بعلاقات اقتصادية وسياسية مميّزة مع الاتحاد، على المستويين الإقليمي والثنائي، لا يوجد أي تكتّل من الدول القومية في العالم يقترب من الاتحاد الأوروبي من حيث النطاق أو العمق أو التأثير ولا تستطيع أي دولة في العالم تجاهل الاتحاد الأوروبي في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والبيئية الكبرى في عصرنا هذا».
ويضيف: «يدعم المواطن الأوروبي العادي أوروبا، لكنه متردّد حيال الاتحاد الأوروبي نفسه! إذ يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي في كثير من الأحيان على أنه ملعب مغلق للنخب والمحلّلين السياسيين وبعيداً عن قمم بروكسل التي تغطيها وسائل الإعلام، غالباً ما يُختزل الاتحاد الأوروبي إلى مجرد كيان تجريدي، بعيد كل البعد عن اهتمامات المواطنين الأوروبيين اليومية ويُصوَّر إما على أنه شماعة يُعلّق عليها الفشل أو كيان استبدادي من قِبل بعض الجماعات السياسية أو الإعلامية. أما خارج أوروبا، فالاتحاد الأوروبي يُساء فهمه ويُستخفّ به بنفس القدر، ومع ذلك فإن الاتحاد الأوروبي يعيش حالياً نوعاً من الذروة، فأزمة المناخ والجائحة والحرب في أوكرانيا ونهاية العولمة وبروز الحرب الباردة الجديدة مع الصين، جعلت من الاتحاد الأوروبي بلا شك أهم قوة سياسية في أوروبا، فحجم إدارة الأزمات التي تطلبها الوضع في السنوات الأخيرة لم يؤدِّ إلى تعبئة الاتحاد الأوروبي فحسب، بل غيّره أيضاً، نحن نعيش في زمن ثورة أوروبية وكما أخذ النظام العالمي يميل، كذلك تغيرت مهمة الاتحاد الأوروبي وموقعه».

تحوّلات الاتحاد الأوروبي

يوثّق هذا الكتاب تحوّلات الاتحاد الأوروبي المستمرة: من مجتمع أوروبي إلى تحالف جيوستراتيجي لدول أوراسية ومن اتحاد يقوم على القيم إلى اتحاد يقوم على القوة ومن مشروع سوق إلى مشروع دولة. يقول المؤلف عن ذلك: «تتجه أوروبا بصمت نحو وضعية القوة العظمى الفيدرالية ضمن نظام عالمي جديد» ويشير هذا الكتاب إلى الآثار العميقة لهذا التحول، ليس فقط على أداء الاتحاد الأوروبي ذاته، بل على علاقاته مع الدول الأعضاء فيه -والعلاقات بين هذه الدول نفسها- وعلى علاقاته مع الدول الأخرى وعلى علاقاته عبر الأطلسي وعلى المستوى الدولي، لا أحد يستطيع تجاهل أو التقليل من شأن الاتحاد الأوروبي بعد اليوم»، مضيفاً على ذلك بالقول: «يحدث تحوّل الاتحاد الأوروبي بسرعة، مدفوعاً بموجات متلاحقة من الأزمات، يتقدّم مع كل أزمة جديدة، تقوده نخب سياسية أوروبية وبيروقراطيون من دون أن يشهد لحظة سياسية جماهيرية أو ديمقراطية كبرى وغالباً من دون انتباه الجمهور العام، يخضع الاتحاد لتحوّل تاريخي».
وهذا التحول، كما يشير الكتاب، مرغوب بقدر ما هو حتمي وضروري، لكن الطريقة التي يعيد بها الاتحاد الأوروبي تشكيل نفسه تكشف أيضاً عن سلسلة من التوترات: بين القيم والمصالح، بين الجغرافيا والجيوسياسة، بين الديمقراطية والتكنوقراطية، بين السوق والدولة وبين الدول الأعضاء ذاتها.
يعلق المؤلف: «في أوروبا المتغيّرة اليوم، نرى ملامح الاتحاد الأوروبي تزداد تشابهاً مع ملامح الولايات المتحدة الأمريكية، فالاتحاد الأوروبي الجديد يتقاسم مع الولايات المتحدة مهمة جيوسياسية وصناعية وتكنولوجية ودفاعية، مصممة لتتناسب مع نظام عالمي جديد يتسم بصراع القوى العظمى وفي هذا السياق، تُعتبر بروكسل بمثابة «واشنطن العاصمة» لأوروبا؛ إنها الاتحاد الأوروبي الجديد الذي يضبط الإيقاع في أوروبا، تماماً كما تحدد الحكومة الفيدرالية الأجندة الوطنية في الولايات المتحدة».
لكن هذا التحول في الواقع السياسي يجب أن يُدمج في الأعراف والهياكل المؤسسية للاتحاد الأوروبي. إنه تحول يُعيد تشكيل هوية الاتحاد وتوازنه الداخلي ويستدعي فهماً جديداً بين الدول الأعضاء نفسها، على الاتحاد الأوروبي أن يعيد اكتشاف ذاته ويعيد تعريف دوره بطريقة تكون مفهومة ليس فقط بالنسبة للدول الأعضاء، بل أيضاً للعالم بأسره، إذا أراد أن يتجنب أزمة مشروعية ويسعى هذا الكتاب إلى المساهمة في هذه العملية.

الهوية الأوروبية الجديدة

يعطي هذا الكتاب الصادر عن دار «بولايتي» في سبتمبر(أيلول) 2024 اهتماماً خاصاً لمسألة «الهوية الأوروبية»، التي باتت تواجه اختباراً حقيقياً. فبينما كان المشروع الأوروبي يقوم في بدايته على سردية سلام وتعاون اقتصادي، فإن التحولات الجارية تدفع باتجاه هوية جديدة أكثر جيوسياسية وارتباطاً بمفاهيم السيادة المشتركة والمصلحة الاستراتيجية، هذا الانتقال في الخطاب والوظيفة يفرض على المواطنين الأوروبيين إعادة التفكير في معنى الانتماء الأوروبي وفي علاقة الاتحاد بحياتهم اليومية.
ويتناول دي فوس أيضاً العلاقة المعقدة بين الاتحاد الأوروبي وشركائه الدوليين، لاسيما الولايات المتحدة والصين وروسيا. فبينما تسعى واشنطن إلى الحفاظ على تحالفها التقليدي مع أوروبا، يبرز في المقابل تيار أوروبي يدعو إلى «الاستقلال الاستراتيجي» وتخفيف التبعية للقرار الأمريكي، أما في ما يخص الصين، فيتموضع الاتحاد بين ضرورات الشراكة الاقتصادية واعتبارات التنافس الجيوسياسي، هذه التوازنات الدقيقة تجعل من أوروبا لاعباً محورياً في عالم متعدد الأقطاب، لكنها في الوقت ذاته تكشف هشاشتها الاستراتيجية. ويؤكد المؤلف أن المسار نحو «أوروبا القوة العظمى» يتطلب من القادة الأوروبيين اتخاذ قرارات شجاعة بشأن طبيعة الحكم الأوروبي وصياغة عقد اجتماعي جديد يعيد وصل المؤسسات بالمواطنين.
إن مستقبل الاتحاد، كما يراه دي فوس، يتوقف على قدرته على التحول من اتحاد بيروقراطي معقد إلى مشروع سياسي ديمقراطي واضح، قادر على إلهام شعوبه والدفاع عن مصالحهم في عالم يتغير بسرعة.
يأتي هذا الكتاب كدعوة للتفكير في مستقبل الاتحاد بوصفه كياناً سيادياً جديداً في عالم تتغير موازين قواه بسرعة، من دون بناء مؤسسات ديمقراطية تواكب هذا الصعود، يبقى هذا التحول محفوفاً بمخاطر الانكفاء والتفكك.



‫0 تعليق

اترك تعليقاً