ما السبب وراء عدم نشره لرسائله الخاصة إلا بعد وفاته؟

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


ملوك الريشة
جاء من أستراليا من أجل طبق فول مدمس وسلطانية طرشى«23»
أنقذه الفيس بوك من الغربة.. وجعله على تواصل بالوطن وبالأصدقاء
فى أستراليا عمل «خفيرًا» وبائعًا قبل أن يحقق ذاته مع «المجانين»
لم يتحمل نظرة اليابانيين له بعد النكسة.. فهرب إلى موسكو
كلمته المؤثرة فى وداع صديق عمره مفيد فوزى

لم يكن البحث عن مغامرة جديدة هو السبب الوحيد فى مغادرة رجائى ونيس اليابان، البلد الذى أحبه إلى حد العشق.. كان السبب أهم وأقوى وأخطر.. إنها نكسة 1967 التى عرف رجائى بتفاصيلها وذاق مرارتها وهو فى الغربة وشعر لحظتها أنه أصبح عاريا أمام كل الناس الذين يعرفونه، ويعرفون حبه لمصر وفخره الدائم بها.. وأصبح شغله الشاغل بعدها وبسببها: كيف سينظر فى أعينهم وبلده مهزوم مكسور، مخذول، مسلوب الأرض والكرامة.. إنه قبل أيام من إعلان النكسة كان يسير فى جامعة “أوساكا” مزهوا يحمل صحف الصباح، ويكاد يقرأ مانشيتاتها بصوت عال، وخاصة تصريحات الرئيس عبد الناصر التى تؤكد أن قواته مستعدة للحرب وقادرة على أن تلقى بإسرائيل فى البحر.. إن سمعة عبد الناصر وأمجاده وفتوحاته تجعله يزهو بنفسه.. فقبل ساعات كان مندوبو الصحف فى اليابان يتصلون به طالبين رأيه فى الأزمة والاستعدادات الصاخبة للحرب، بوصفه صوت مصر فى اليابان.. 

لكن جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن، وبما لم يخطر على بال الرسام المصرى المقيم باليابان، أظلمت الدنيا فى عينيه وأسقط فى يده كمن جاءته ضربة على رأسه من حيث لا يتوقع.. لقد عرفت الدنيا كلها بالخبر المدوى و”الهزيمة النكراء” فليهرب إذن بعيدا.. بعاره وأحلامه الضائعة وبلده المهزوم..

(1)

يحكى رجائى عن تلك الأيام السوداء: “وفى نهاية الستة أيام – أيام المعركة فى 1967 – كان الحمل ثقيلا.. وكانت جسامة الأحداث قد أرغمت كلا منا على الصمت، فلم يعد هناك ما يقال أو ما يعمل فقررت حزم حقائبى والعودة إلى “كيوتو” (عاصمة اليابان التاريخية ومنارتها الحضارية)، لقد حدثت الكارثة وانتهى الأمر، وفى الطريق قررت النزول فى محطة “أتامى” والبيات ليلة هناك، ثم العودة بقطار الصباح إلى “كيوتو”.. لم أكن قد زرت “أتامى” من قبل، ولم يكن هناك اتجاه معين أقصده، ولم أكن حتى أعلم لماذا قررت زيارة “أتامى” على الإطلاق.. مشيت قليلا أتفرج على الشوارع، ثم انحرفت إلى شارع جانبى جذبنى جوه الهادئ.. وقرب نهاية الشارع كان هناك بار يابانى صغير بدا لى مهجورا إلا من شخص يجلس على طرف البار، بينما كان يقوم بالخدمة عليه رجل وزوجته.. دخلت من الباب واتجهت إلى الطرف الآخر من البار وجلست على الكاونتر.. صورة الأحداث الماضية مازالت تلاحقنى.. بعد فترة لم يبق بالبار غيرى وغير الرجل وزوجته.. بدأ الرجل المحادثة بالسؤال التقليدى عند اليابانى: أنت منين؟ وكان سؤال كهذا أجيب عليه مداعبا: خمن!، ثم أنظر الى السائل وهو يهرش رأسه فى حيرة وتخبط فى أسماء دول من أمريكا إلى روسيا إلى الهند.. وعندما لا يأتى بالإجابة الصحيحة أجيبه برنة خفيفة من الفخر: إنى قادم من مصر، لأنى أعرف مدى وقع الاسم ذى الحضارة العريقة على أذن اليابانيين، الذين لا يحترمون شيئا قدر احترامهم للكثير من الدولارات والحضارة العريقة.. ولكن الآن.. كان السؤال كالإصبع الذى يضغط على موضع الجرح.  لم يكن هناك وقت للمداعبة أو الزهو، بل كان وقتا للألم .. وقلت بسرعة خاطفة: من إسبانيا.. أنا قادم من إسبانيا.. وأحسست بالغربة والضياع ساعتها.. ليته يسكت هذا الرجل عن السؤال الآن ويتركنى أشرب همومى”.

كانت مفارقة اليابان من أصعب القرارات على نفسه، فقد كان البلد الذى حقق له أجمل أحلام حياته، الحلم الذى راوده وهو ابن ثمانى سنين منذ أن وقعت فى يده أعداد من مجلة “الريدر دايجست” الأمريكية، واكتشف من خلالها العالم وقاراته ومدنه وناسه، وأشعلت رغبته فى الطواف بهذا العالم المسحور، إنها رغبة السفر والترحال التى لازمته طوال حياته، وكانت اليابان مبتدأها ومفتتحها، وفيها رأى وعاش وتمتع وتفتح وعيه على الدنيا وذاق لذة السفر، ولذلك بقى تأثيرها قويا وغائرا فى نفسه رغم أنه لم يمكث بها سوى سنوات أربع.. ويعترف هو بهذا السحر اليابانى:

“رغم الإقامة القصيرة فى اليابان إلا أنه سيظل لها اعتزاز خاص فى نفسى، فقد كانت الباب الذى دخلت منه إلى أحلامى، وتعلمت فيها الكثير عن الفن والفلسفة وعشقت الكتابة اليابانية التى أعتبرها فنًا عريقًا كنت أودّ لو كرست لدراستها وقتًا أطول من حياتى.. ورغم أن مرحله اليابان تقل فى الزمن عن عشرة بالمائه من حياتى فى الخارج، إلا أنه كان لها مذاق آخر، هو مذاق أول حب.. بكل الحماس والاندماج فى المشاعر.. وحتى أخطاء الحب الأول أيضا..!”.

وجاءت هزيمة 67 المروعة لتدفعه دفعا للتخلى عن حبه الأول، بل وللخروج من بلاد الشمس المشرقة..

لا حل إلا الهروب، وفى أول باخرة متجهة إلى الاتحاد السوفييتى وضع رجائى ونيس حقائبه.. ومن موسكو سافر إلى باريس.. كانت نيته الإقامة بها، ولكنه فوجئ أن الأوضاع ليست على ما يرام.. فالمظاهرات تجوب الشوارع، والأحوال الاقتصادية لا تغرى بالبقاء، خصوصا إذا كان فنانا يتكسب من رسم لوحاته وبيعها.. وبعد أيام من المعاناة ابتسم له الحظ، قابلها فى باريس، تلك الفتاة الأسترالية الساحرة التى التقى بها للمرة الأولى فى اليابان، وتواصلت علاقتهما بالرسائل.. للمرة الأولى يخفق قلبه بالحب.. ووجد تجاوبا من جانبها.. إن ابتسامتها وإعجابها برسوماته ومغامراته يخفف عنه كثيرا ويدفعه لمزيد من الإصرار على مواصلة الطريق الذى بدأه.. وفى السفارة المصرية بباريس تزوجها، وقررا الرحيل إلى لندن.. إنها مغامرة جديدة من مغامرات رجائى، التى يخوضها بلا تفكير تاركا العنان لقلبه، ووجد نفسه أخيرا فى القيد الذهبى وهو الذى عاش عمره حرا طليقا أعزب..

ويكمل رجائى: “رحلنا إلى لندن، وحاولت أن أعمل فلم أجد عملا على الإطلاق.. رغم أن زوجتى وجدت عملا كمدرسة للأحياء بسهولة تامة.. وأمضينا شهر العسل.. ثم عدت مع زوجتى إلى أستراليا لأبدأ من الصفر كما تعودت فى كل بلد أزوره”.

من إعلانات الصحف مارس رجائى أعمالا غريبة مثله.. مرة “خفيرا” لقطعة أرض يجرى تحويلها إلى ملعب جولف.. ومرة بائعا.. حتى عثر على ضالته.. إعلان منشور بالصحف أيضا يطلب رساما ليعمل فى مستشفى للأمراض العقلية لتعليم النزلاء الرسم حتى يشغلهم ذلك عن التفكير فى عقدهم النفسية.. وتقدم رجائى، ولأن مؤهلاته كانت أكبر من الوظيفة المطلوبة أصبح بسرعة مساعدا لرئيس القسم، الذى ترك له كل الأعباء وسافر إلى إيرلندا.. وفى مقابل 42 جنيها يتقاضاها أسبوعيا كان عليه أن يذهب كل صباح إلى مستشفى الأمراض العقلية ليجلس وسط النزلاء يتبادل معهم الأحاديث، ويشترك معهم فى رسم اللوحات.. تجربة صعبة، ولكنها ممتعة لفنان يبحث دائما عن المغامرة والتجارب الصعبة، ويرى أن الفنان هو أقرب البشر إلى الجنون، لأنه يرى أشياء لا يراها الإنسان العادى، ويضيف: “أحسست أن التجربة مغامرة جديدة.. يعنى من اليابان إلى فرنسا.. إلى مستشفى الأمراض النفسية.. فرصة لا تعوض.. ألقيت بنفسى فيها بدون تفكير، وتوقعت أنها ربما تستمر سنة أو أكثر قليلا ولم أدر أنها ستستمر أكثر من ثلاثين عاما حتى أصبحت مسئولا عن هذا القسم (الفريد).

ويضيف مواصلا: “تعلمت من التجربة.. كما تعلمت من تجربة اليابان، ولكن مع المرضى النفسيين اكتشفت أن دورى لا يقتصر على العطاء فقط.. اكتشفت أن الفن يمكن أن يوظف لمساعدة المريض النفسى.. أحيانا أتأمل تجربتى.. وأسأل نفسى: هل أخطأت؟.. المفروض أن أقدم فنا وإبداعا للأسوياء وليس للمرضى.. ولكننى وجدت الإجابة ببساطة لأننى اقتنعت بدورى هذا، وإلا ما كنت قد قررت الاستمرار فيه هذه الفترة من عمرى”.

(2)

استغرقته التجربة، واستولت عليه المغامرة، حتى أنه لم يجد وقتا يزور فيه مصر، ويلتقى بالأحباب القدامى، ويستعيد الذكريات مع الأهل والأقارب والأصدقاء.. خلال كل هذه الفترة لم يزر رجائى مصر سوى 5 مرات فقط.. بينها مرة جاء للمشاركة فى مسابقة الكاريكاتير التى أقامتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان بنقابة الصحفيين عام 1988 وفاز بالمركز الأول، ويومها قال عنه السندباد المصرى حسين فوزى: “استطاع رجائى أن يمزج بين الفلسفة والموسيقى والرسم.. واحتفى به النقاد ووصفوه بأنه مستوحى من التراث الفرعونى والقبطى والإسلامى فى نماذج فريدة، وهى معادلة صعبة يجيدها فى رسوماته، ولوحاته التى لا تخلو من وضاءة ولمعان الشمس المصرية، متزاوجة مع الرؤية المعمارية القديمة، وكأنه يعود بنا إلى قصص ألف ليلة وليلة الزاخرة بحكاياتها الغريبة، إضافة إلى ذلك فإن منهجه التشكيلى يتميز بأبعاده الميتافيزيقية الصوفية، التى تكتسب تكويناته صبغة تراثية”.

ورغم الجائزة وهذا الاحتفاء عاد رجائى إلى أستراليا يواصل مغامراته فى مستشفى المجانين.. وطال غيابه.. وجاء إلى القاهرة فى زيارة جديدة فى العام 2001، نشر خلالها صفحات من تلك التجربة على صفحات “صباح الخير” بطلب من رئيس تحريرها وصديقه المقرب رؤوف توفيق.. واستمتع بشمس القاهرة، ورؤية الأصدقاء القدامى، وبطعم الفول المدمس وسلطانية الطرشى، هذه الوجبة الفريدة التى عشقها فى شبابه وحرمته منها الغربة.. ولكن عشقه للمغامرة كان أقوى، مفضلا مستشفى المجانين على سحر القاهرة..

لقد أعطته هذه التجربة – وسط المرضى النفسيين- خبرات هائلة ورؤى متعمقة ووجهات نظر أكثر وعيا ونضجا، خاصة فيما يتعلق بالمرض النفسى أو على حد قوله: “فرق شاسع بين صورة المريض النفسى فى الشرق وصورته فى الغرب، الاختلاف هو اختلاف بين طريقتين للتفكير.. فالإنسان هناك مهم جدا.. صحته النفسية والفسيولوجية أيضا.. لكننا فى الشرق نشأنا على فكرة خاطئة ملخصها أن الجنون ارتبط بالسخرية.. وأن المجنون يتخيل نفسه نابليون مثلا.. لكن الأمراض النفسية تهزم أى إنسان فى أية سن وفى أية طبقة اجتماعية، وهى فى جوهرها تراجيدية وليست كوميدية.. إن تفكير مجتمعنا لا بد أن يتغير والمريض النفسى فى المستشفى لا يستطيع الحكم على ظروفه، لذلك لابد أن تهيأ له كل الظروف لمساعدته، وهذا ما يحدث فى الخارج لأنهم يعتبرونه لا يزال عضوا فى العائلة الإنسانية، لم يهمل ولم يسقط من حساب المجتمع.. أيضا ينفقون أموالا طائلة للعلاج بالفن، لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك سينكسر المريض ويكلف الدولة الكثير.. ربمــا أكثــر من تكاليف العلاج.

ويدلل رجائى على وجهة نظره بمريضه الشهير “بل” الذى دخل المستشفى يعانى من حالة اكتئاب حادة، رافضا الاستجابة لكل النصائح، ولاحظ رجائى أنه يهوى “اللحام” فجمع له بعض قطع الحديد، وعرض عليه أن يتولى لحامها، على أن يقوم رجائى بتصميم أشكال مبتكرة لها على الورق.. واستهوت المريض الفكرة، وأعجبه هذا الفن لدرجة أنه بعد أن خرج من مستشفى الأمراض العقلية قرر الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، ودرس النحت لمدة أربع سنوات، وأصبح من أبرز النحاتين فى أستراليا.. هكذا يصنع الفن المعجزات.

(3)

سنوات طويلة تقترب من نصف قرن، ورجائى ونيس يواصل أطول وأغرب مغامرة فى حياته.. فى زيارته الأخيرة لمصر سألوه: ألم تتعب من الغربة.. ألا يراودك الحنين للعودة إلى ماء النيل.. فيهز رأسه بالإيجاب كما اعتاد فى رده على هذا السؤال الذى تعرض له كثيرا.. ثم يبتسم ويغير الموضوع.. فلا زالت المغامرة عنده أهم وأكثر روعة، حتى لو قطعت من عمره نصف قرن..

وربما كان يخجل أن يعترف لهم بالسبب الحقيقى الذى قاله يوما لأستاذه إحسان عبد القدوس، وكانت تربطه بإحسان علاقة صداقة إنسانية مدهشة رغم فارق العمر والدرجة الوظيفية، كان إحسان بوصف رجائى “مثل الأب المثالى لنا جميعًا، وكان يتواضع معنا خاصة بعد الانتهاء من كتابة مقاله الأسبوعى أو حلقات من رواياته، ثم يأخذنا معه للسهر فى أحد الفنادق”.. وبحكم هذا القرب الإنسانى سأله مرة إحسان كصديق عن أكثر شيء يخاف منه فى الحياة، وبلا تفكير أجاب رجائى: أن تنتهى حياتى كعجوز يلبس الجلابية ويجلس فى البلكونة يقرأ فى صفحة الوفيات”.. وخوفا من تلك النهاية التقليدية قرر رجائى أن يعيش حياة غير تقليدية، حتى ولو فى قارة أستراليا!

ورغم البعاد ظلت مصر حاضرة فى رسوماته ووجدانه ولا تبارح تفكيره، ورغم قلة زياراته لمصر إلا أنه لم يعدم وسائل للتواصل مع الوطن وأصدقاء العمر، وكانت الرسائل هى الجسر الذى ربطه بالوطن والأصدقاء.. أو كما قال بنفسه:

“كانت هناك مراسلات مكتوبة ومرسومة منذ أواخر الستينيات وكانت تشمل د.مصطفى محمود وبهجت عثمان وأحد أصدقاء اليابان، وكان يعيش فى إيطاليا وأيضًا الفنان جورج البهجورى الذى فاز بنصيب الأسد من خطاباتى المرصعة بالكاريكاتير، وكان جورج يداوم على المراسلة مما شجعنى على الاستمرار من أوائل السبعينيات إلى عام 2010، حيث أرسلت له آخر خطاب، وكنت أستمتع بهذا اللون من المراسلة الذى كان أحد إبداعاتى وكنت أتناول فيها السياسة والمجتمع والفن والكاريكاتير، وكان كل خطاب وكأنه موضوع قائم بذاته، ولكننى كنت أرفض نشر خطاباتى لأَنِّى لم أهدف من ورائها إلا الفكاهة المجردة والتى كان من الصعب على القارئ العادى فهمها، وكلما طلب منى جورج نشرها كنت أرفض وأقول له: «ربما يومًا ما بعد أن نرحل»! ولكنى وافقت على نشر خطاب منها منذ سنوات، وهناك المئات من هذه الخطابات عند البهجورى”. (ونتمنى أن يفرج بهجورى قريبا عن هذا الكنز).

أما أغرب وأطول رسالة أرسلها رجائى من أستراليا فكانت من نصيب الناقد والفنان محمد بغدادى، عندما كتب عن رجائى مقالا بديعا فى العدد رقم 2000 من “صباح الخير”، ولم يجد رجائى وسيلة يعبر بها عن إعجابه بالمقال وشكر صاحبه سوى بفاكس طوله 120 سم، قال فيه ورسم كل معانى الشكر والامتنان التى خطرت بباله.

ولما قربت التكنولوجيا سكان الكوكب وجعلت من العالم قرية صغيرة بالفعل كانت صفحة رجائى على الفيس بوك نافذته على مصر وما فيها، يكتب ويرسم ويتواصل من خلالها مع الوطن، ويتابع أخباره ويرسل من هناك بأشواقه وأحزانه، مثلما فعل عندما كتب مقالا مطولا يودع فيه صديق عمره مفيد فوزى (4 ديسمبر 2022)، متذكرا أيامهما الأولى فى الصحافة والفن، والرحلة اليابانية التى جمعتهما فى أوائل الستينيات.. واختتمه بقوله:

 “فى رحلاتى من أستراليا إلى مصر كنت أزور زملاء الفن والصحافة فى مقر عملهم، وكنت أتابع أخبار الزميل مفيد فوزى وأتعجب كيف جمعتنا اليابان يوما ما وفرقتنا اليابان أيضا، لأنها كانت السبب فى زيارة أخرى لى للإقامة هذه المرة. اليوم قرأت عن رحيل الزميل مفيد فوزى وتسارعت الذكريات فى رأسى ومخيلتى لأودعه وأدعو له بالرحمة وبالعزاء لعائلته. وداعا يا رفيق رحلة كانت مدخلًا لرحلات أخرى ثم أخرى ثم أخرى!”.

كتب رجائى بأسلوبه الحميمى العذب كثيرا من ذكرياته عن أيامه فى مصر، كتابة تفيض بالحنين والشجن، مثلما فعل وهو يستعيد تفاصيل أيامه الأولى فى الصحافة عندما وجد نفسه فى حجرة واحدة زميلا لهؤلاء الرسامين العباقرة الذين كان يتمنى لو يسلم عليهم، والمدهش أن ذاكرته رغم العمر كانت ساخنة واعية بالتفاصيل:

“وتأتى فترة وجودى بعد الدراسة فى حجرة الفنانين الشهيرة فى ‘دار روز اليوسف’ القديمة التى مازلت أذكرها وأذكر تفاصيل حجراتها بالتفصيل؛ فقد كنت من المترددين فى تركها والانتقال إلى المبنى الجديد فى شارع قصر العينى عام 1960! رسمت هذه الحجرة مرات عديدة ومازلت أذكر مكتب چورچ البهجورى على يسار الباب ثم مكتب الفنان جمال كامل الكبير والمغطى بالزجاج ثم مكتب الفنان هبة عنايت ثم المكتب بجوار باب البلكونة الذى كنت أستعمله أحيانًا ثم مكتب الفنان زكى.. كنت أحيانًا أنظر وأنا غير مصدق كيف أن الفنان جمال كامل الذى كنت أحاول تقليد رسومه للوجوه وأتعلم منه وأيضا الفنان چورچ البهجورى الذى حل محل الفنان عبد السميع فى كاريكاتير المجلة يهيمنون على الحجرة، بينما أنا أحاول أن أنمو فنيا وسياسيا ونفسيا أيضا!”.

  ولكنها ذكريات لا تخلو كذلك من خفة الدم المصرية التى لم تغادره وهو فى آخر بلاد الدنيا.. وهو ما كان يتجلى فى تلك اللوحات التى يكتبها بخطه الأنيق وكأنها حكمة قديمة، فإذا ما قرأتها لا تملك إلا الابتسام أو ما هو أكثر بهجة، كتلك التى يقول فيها “ما زلت أجرى وراء العالمية وقد وصلت حتى الآن إلى مشارف كفر الشيخ”!

المدهش أننى أكتب هذا الفصل فى نفس يوم الذكرى الأولى لرحيل رجائى ونيس، وقد تحولت صفحته على الفيس بوك إلى دفتر عزاء يفيض بالمحبة، لخصتها رسامة الكاريكاتير الشابة دعاء العدل فى كلماتها البسيطة الصادقة: وداعا أيها الفنان المبدع.. رغم الغياب يظل الأثر.



‫0 تعليق

اترك تعليقاً