في تعليقٍ لي على صورة جمعتني وإنعام كجه جي، الأديبة العراقية المعروفة، قبل سنوات، أعتقد أنها كانت في إحدى دورات معرض الشارقة للكتاب، كتبتُ تعليقاً مفاده: «حين أقرأ لها رواية لا تفارقني حتى أصل صفحتها الأخيرة، وحين أقرأ لها مقالاً أتمنى لو أنه طال أكثر ولم ينته». والسبب هو لغتها الرشيقة، العذبة، الآسرة دائماً، والساخرة أحياناً. وهو قول أريد تكراره اليوم في هذه العجالة أمام منجز إنعام كجه جي، التي فازت بجائزة سلطان العويس في مجال الرواية والقصة والمسرحية هذا العام.
قرأت لإنعام الكاتبة الصحفية قبل سنوات من تعرفي عليها مباشرة واللقاء بها. جمعتنا ولا تزال مجلة «كل الأسرة»، التي يكتب كل منا مقالاً فيها منذ سنوات طويلة، فإنعام قادمة من الصحافة وعاشقة لها، منذ أن تخرجت في قسم الصحافة في كلية الآداب جامعة بغداد، وعملت في صحف عديدة، في العراق وخارجه عندما انتقلت إلى باريس للدراسة، وهناك استقرّ بها المقام، هي وعائلتها، حتى اليوم، وقالت غير مرة إنها مدينة للصحافة التي أكسبتها لغتها في الكتابة، التي أصبحت ضمن عدّتها وهي تكتب الرواية، وأحسب أنها أحد مصادر التشويق والإمتاع وحتى بواعث الشجن في رواياتها، وهي تحكي محنة وطنها العراق، ومحنة الجيل الذي تنتمي إليه، والذي شهد ما مرّ به هذا الوطن وأهله من أوجاع.
العراق بمحنه هو الحاضر الأكبر في روايات الكاتبة، إن لم يكن الوحيد، فهي، وإن تناولت شخصيات عراقية وجدت نفسها مكرهة في المنفى القسري أو الغربة الطوعية، فإن المنفى يظهر في هذه الروايات كباعث لاستعادة الذاكرة الجريحة، كأنّ الكاتبة، من خلال هذه الشخصيات، ترى الوطن، مكاناً وزماناً، رؤية بانورامية قد لا تتيسر لمن يراه من داخله.
يبرز ذلك في كل رواياتها، بما في ذلك أحدثها «صيف سويسري»، التي تدور أحداثها في مصحة بمدينة بازل السويسرية، وتتمحور حول تجربة علاج لعراقيين، من خلفيات سياسية وحزبية مختلفة، أتوا المصحّة للشفاء من الإدمان العقائدي الذي نشأوا عليه، وقادهم إلى مصائر متقاطعة وموجعة، ومن خلال سيّرِهم، التي قد يكون بعضها حقيقياً وليس متخيلاً، نتعرف إلى بعض أوجه محنة الوطن المنكوب.
ما يصحّ على شخصيات «صيف سويسري» يصحّ على سابقتها «النبيذة»، وقبلها «الحفيدة الأمريكية» و«سواقي القلوب» و«طشاري»، ويستوقفنا عنوان هذه الأخيرة، ففي اللهجة العامية العراقية تعني كلمة «طشاري» (بكسر الطاء وتشديد الشين) طلقة الصيد التي تتوزع في عدة اتجاهات، وإذا وصفت جماعة نفسها بأنها «طشاري» فهذا يعني بأنها مُبعثرة، لذا تبدو المفردة وصفاً دقيقاً لحال العراقيين، وغيرهم طبعاً من العرب في لحظتنا الراهنة ممن وجدوا أنفسهم عرضة للتشتت والضياع، بالمعنيين الحرفي والمجازي.
[email protected]