شكّلت الخرائط والأطالس في الحضارة العربية والإسلامية ركيزة علمية قادت العلماء والرحالة والتجار في استكشافاتهم، وعكست التفوق الفلكي والجغرافي الذي تميزت به هذه الحضارة. فمنذ القرون الأولى، أبدع رواد مثل الإدريسي والخوارزمي والمسعودي في رسم خرائط دقيقة ومبتكرة أسهمت في تكوين صورة واضحة للعالم القديم، واضعين بذلك أسس علم الخرائط الذي ألهم حضارات لاحقة.
امتداداً لهذا الإرث العلمي، حرصت مكتبة محمد بن راشد على جعل الحفاظ على الثقافة العربية وتعزيزها محوراً أساسياً في استراتيجيتها، من خلال تقديم التراث بأساليب معاصرة تواكب تطلعات الأجيال الجديدة. ويتجلى هذا التوجه في تأسيس مكتبة «الخرائط والأطالس» التي تحتضن مجموعة متميزة من الخرائط والأطالس النادرة، مدعومة بتقنيات متقدمة تسهم في تسهيل الوصول إلى المحتوى وتعزيز تجربة التفاعل معه. وتشكل هذه المكتبة منصة معرفية تجمع بين حفظ الإرث الحضاري وتقديمه برؤية عصرية تليق بمكانة دبي كمركز عالمي للثقافة والابتكار.
وتُجسّد مكتبة الخرائط والأطالس أحد أبرز النماذج المتخصصة في المنطقة، حيث تجمع بين العرض التوثيقي والتفاعل المعرفي، وتمنح الزوار والمتخصصين تجربة مميزة عبر مجموعة واسعة من الخرائط التاريخية والأطالس الحديثة، إلى جانب تنظيم فعاليات ثقافية وعلمية متخصصة.
جسر
توفر المكتبة نافذة شاملة على تطور علم الخرائط، بأبعاده التاريخية والجغرافية والتقنية، لتشكل صرحاً معرفياً يربط الماضي بالحاضر، ويمنح الباحثين فرصة لفهم العالم من منظور علمي وثقافي متكامل. كما تعكس هذه المبادرة التزام مكتبة محمد بن راشد، بدعم مجتمع المعرفة وتوفير بيئة تحتضن التراث وتواكب التحولات المستقبلية، بما ينسجم مع رؤية دولة الإمارات لبناء اقتصاد قائم على المعرفة.
وتُعد مكتبة الخرائط والأطالس من أكثر المكتبات تنوعاً وغنى في محتواها، إذ تضم أكثر من 7,753 مخطوطة وكتاباً في مجالات التاريخ والجغرافيا وأدب الرحلات، إلى جانب أطالس بيئية وبحرية، ومجلات سفر، ومخطوطات، ووسائط رقمية بلغات متعددة، من بينها أكثر من 690 خريطة ورقية مصنفة بعناية داخل خزائن عرض أفقية مخصصة تغطي مختلف مناطق ودول العالم.
مقتنيات نادرة
من بين أندر مقتنيات المكتبة كتاب «رحلة ابن فضلان»، الذي يوثق رحلته إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة في عام 921 ميلادية، وهو من أوائل كتب الرحلات العربية. كذلك تحتفظ المكتبة بنسخة من كتاب «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» لابن بطوطة، أحد أشهر كتب الرحلات في التاريخ، الذي يسرد تفاصيل رحلاته التي امتدت لثلاثين عاماً. وتضم المكتبة أيضاً كتاب «رحلات ماركو بولو» الصادر عام 1982، ويوميات كريستوفر كولومبوس التي توثق رحلته الأولى إلى العالم الجديد بين عامي 1492 و1493. أما في مجال أدب الرحلات الحديث، فتوفر مكتبة الخرائط والأطالس مجموعة مميزة من الكتب من بينها «أمريكا في مرآة عربية» للدكتور كمال عبد الملك، و«حكايات على الحدود» للكاتب وليد مكي، و«هكذا رأيت العالم» للكاتب سامي كليب، و«حكايات على خارطة السفر» للدكتور محمد الدغيري.
وتتصدر قائمة الكتب الأكثر طلباً في المكتبة مجموعة من الأطالس العالمية وكتب السفر، مثل «World’s Best Travel Experiences»، و«The Travel Atlas»، و«Oxford Atlas of the World»، و«Collins World Atlas»، إلى جانب أطلس «العالم التعليمي مع ملحق بلدان العالم»، و«عمان بلادي الجميلة»، و«أطلس الفلك التفاعلي»، و«أطلس فلسطين 1917-1966» للدكتور سلمان أبو ستة.
كما توفر المكتبة مجموعة من الكتب الإلكترونية المتخصصة في أدب الرحلات، مثل «Writes of Passage»، و«Picturing Experience in the Early Printed Book»، و«أدب الرحلات الأندلسية والمغربية حتى نهاية القرن التاسع الهجري»، و«سياحة عبر التاريخ». كما تحتفظ مكتبة محمد بن راشد بأطالس تاريخية نادرة ضمن مقتنيات «متحف الذخائر»، من أبرزها «أطلس مايور» للمؤلف فريدريك دي فيت الصادر عام 1680، وأطلس مسرح العالم لإبراهام أورتيليوس مدينة أنتويرب- بلجيكا 1592م.
وتحتضن مكتبة الخرائط والأطالس كذلك مجموعة مهمة من الكتب والمراجع المتخصصة في الجغرافيا، والأنثروبولوجيا، والتراث الشعبي، والأطالس، وأدب الرحلات، إلى جانب مؤلفات مرجعية في مجالات متعددة تشمل التاريخ، والطب، والتكنولوجيا، والزراعة، والعلوم العسكرية، إضافة إلى كتب نادرة عن تاريخ العالمين العربي والإسلامي، وإصدارات عالمية تغطي تاريخ وجغرافيا آسيا، إفريقيا، وأوروبا، وأمريكا، والعديد من الدول.
برامج ثرية
تشكل مكتبة الخرائط والأطالس مستودعاً معرفياً ومركزاً حيوياً للأنشطة والبرامج التي تهدف إلى تنمية الوعي وتعزيز التجربة الثقافية للزوار من مختلف الفئات. وتشمل هذه الفعاليات لقاءات مع مؤلفين، إطلاق كتب جديدة، مجموعات قراءة، وأنشطة تعليمية تثقيفية موجهة للأطفال واليافعين. كما تستقبل المكتبة زيارات مدرسية وجامعية، وتقدم محاضرات ومناقشات متخصصة، بما يجعلها بيئة تفاعلية تسمح للزوار بالتعلم والاكتشاف والتفاعل مع خبراء في علم الخرائط والجغرافيا، وتوسيع مداركهم حول تطور رسم العالم وفهمه.
ومن أبرز الفعاليات التي نظّمتها المكتبة ضمن برنامج «تمكين العقول الشابة» وتعزيز دور المرأة، ورشة بعنوان «العالم بين الخطوط والرموز» بالتعاون مع Sea More Maps، قدّمتها المعمارية البولندية تيشكا ليفاندوفسكا، المتخصصة في التخطيط الحضري وصناعة الخرائط الخشبية.
وسلطت الورشة الضوء على تطور رسم الخرائط من العصور القديمة وحتى التقنيات الحديثة، حيث استعرضت المشاركون مسيرة الخرائط منذ نماذج بابل الطينية، مروراً بإسهامات العرب والإغريق، ووصولاً إلى استخدام الصور الفضائية ونظم المعلومات الجغرافية. كما تعرّفوا إلى مفاهيم مثل الرموز، وخطوط الكنتور، والإحداثيات، وتباين الإسقاطات، قبل أن يطبقوا ما تعلّموه عملياً برسم خرائطهم الورقية الخاصة.