
د. جاسم المناعي*
إن الضغوط المستمرة التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على رئيس الاحتياطي الفيدرالي– البنك المركزي الأمريكي– لإجباره على خفض سعر الفائدة، تثير التساؤل حول مدى حقيقة استقلالية البنك المركزي.
ومن المتعارف عليه في كثير من دول العالم أن البنك المركزي يتمتع باستقلالية، تحد أو تمنع من التدخلات السياسية في مهامه وأعماله، لكن مثل هذا الوضع لا ينطبق في الوقع على جميع دول العالم. وحتى في الدول المتقدمة مثل بريطانيا، ظل البنك المركزي يخضع لوزارة المالية الى وقت متأخر، حتى أصبح كياناً مستقلاً، عام 1997 . لكن من الناحية النظرية، أو من خلال التجربة العملية، يبدو أن استقلالية البنك المركزي، ساعدت في تحقيق استقرار أفضل للنظام المالي، وكذلك على صعيد خفض مستويات التضخم.
وهذا ينطبق علــى دور البنك المركزي فـــي الدول المتقدمـــة والناميـــة علــى حـــد سواء. علـــى صعيد البنك المركـــزي الأمريكي، فقـــد أنيــطـــت بـــه مسؤوليـــات محددة، أهمها استقرار الأسعار، وتحقيق أقصى ما يمكن من التشغيل الكامل. في مجال تحقيق هدف استقرار الأسعار يستخدم البنك المركزي السياسة النقدية، من خلال خفض أو رفع أسعار الفائدة في التعامل، مع التفاوت في معدلات التضخم عن المستوى المستهدف. وتعتبر نسبة 2% تمثل المستوى المقبول من التضخم، والذي لا يستدعي أي تحرك من البنك المركزي، حيت يقتصر التحرك على الحالات، التي يكون فيها التضخم إما أعلى وإما أقل من هذه النسبة. أما على صعيد تحقيق التشغيل الكامل فيعمل البنك المركزي على تحقيق هذا الهدف، من خلال التحكم في مستوى عرض النقود، وبالتالي يتمكن البنك المركزي، من خلال هاتين السياستين، السياسة النقدية ومستوى عرض النقود من تحقيق المهام الموكلة اليه في حفظ استقرار الأسعار وتحقيق أفضل وضع للتشغيل الكامل. وفي جميع الدول تقريبا يخضع البنك المركزي في تقييم أدائه للمساءلة، التي تتطلب منه أن يقدم تقارير دورية للمشرعين وللرأي العام حول سياساته النقدية ونتائجها مدعومة بمزيد من الشفافية، حول عملياته التي تندرج ضمن مهامه واختصاصاته.
وحسبما يبدو، فإن استقلالية البنك المركزي تتفاوت من حالة الى أخرى، فمقارنة بوضع البنك المركزي البريطاني، الذي يتمتع الآن باستقلالية كاملة، فإن وضع البنك المركزي الأمريكي يختلف بعض الشيء، حيث إنه يتمتع باستقلالية في وضع السياسة النقدية لكنه لا ينفرد تماماً بسياسة الاستقرار المالي. كذلك ووفقاً لبعض الظروف فقد وجدنا أن بعض البنوك المركزية، وبعكس المتعارف عليه تضطر الى ممارسة بعض الأنشطة، التي قد لا تتسق تماماً مع مبدأ استقلالية البنك المركزي، حين تتدخل لشراء السندات الحكومية لضخ مبالغها في تنشيط الاقتصاد، مثلما حصل إثر الأزمة المالية عام 2008، وكذلك خلال فترة انتشار عدوى الكورونا.
ويفسر لجوء البنوك المركزية الى هذا الأسلوب، بدلاً من استخدام السياسة النقدية، الى كون أسعار الفائدة في ذلك الوقت متدنية جداً تقارب الصفر، الأمر الذي لا يمكّن من خفضها أكثر، ما اضطر البنوك المركزية الى اللجوء الى ما يعرف بالتسيير الكمي، لتحقيق هدف إنعاش الاقتصاد دون القدرة على مزيد من خفض سعر الفائدة، الا أن هذا الإجراء كان له ثمنه، حيت إنه بمجرد أن بدأت أسعار الفائدة في الارتفاع، فإن قيمة السندات التي اقتنتها البنوك المركزية، أخذت في الهبوط، الأمر الذي انعكس في شكل خسائر في محافظ البنوك المركزية المعنية.
هذه الخسائر فـــي الواقع لا تمثل سوء إدارة من قبل البنوك المركزية بقدر ما تمثل الثمن الـــذي ينبغــي دفعــــه للحفـــاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي. الا أنه في هذه الحالات، التي تظهر فيها بيانات البنوك المركزية نوعاً من الخسائر، فإن استقلالية البنوك المركزية، تكون تحت المحك، حيث تزداد في هذه الحالات الضغوط السياسية على البنوك المركزية، وذلك لأن ربحية البنوك المركزية مهمة للسلطة السياسية، حيث تدعم وضع الميزانية، وتجنب بالتالي السياسيين اللجوء الى خيارات غير محببة كزيادة الضرائب.
هـــناك كثير من التجارب التي أثــــبتت أن التدخلات السياسية في أعمال البنوك المركزية، لم تؤدِ الا الى قرارات غير موفقة. الأرجنتين وتركيا على سبيل المثال، واللتان حاولتا في ظروف معينة جعل البنك المركزي يعمل على تمويل عجز الموازنة، لم تؤدِ مثل هذه السياسة الا الى ارتفاع التضخم، واستمرار عدم الاستقرار الاقتصادي. بشكل عام تدخل السياسة في شؤون البنك المركزي، يكون في الغالب لفرض أسعار فائدة منخفضة، لتحفيز الاقتصاد وزيادة الإنفاق الاستهلاكي، الا أن اسعار الفائدة المنخفضة، تشجع في الوقت نفسه على مزيد من المديونية للحكومة وللقطاع الخاص على حد سواء. والأسوأ من ذلك أنه عندما ترتفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، تصبــــح هذه المديونيات من أهم مصادر الخطر على الوضع الاقتصادي العام. خلاصة القول، إن استقلالية البنك المركزي هي مسألة نسبية تختلف من بلد الى آخر، كما أن هذه الاستقلالية تكون حسبما يبدو مرغوبة في بعض المهام دون أخرى، وقد أثبتت بعض الظروف التي مر بها العالم، أن مبدأ استقلالية البنك المركزي لا يكون بالضرورة مناسباً لكل زمان ومكان، كما أن المرونة في النظر الى هذه الاستقلالية للبنك ربما تكون أفضل من التشبث بمعايير جامدة لا تمت للواقع بصلة.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي