هل تعكس كرة القدم قيمة كبيرة بهذا الشكل؟

هل تعكس كرة القدم قيمة كبيرة بهذا الشكل؟


صباح الخير، أو ربما مساء الخير، لا يهم التوقيت، المهم أننا نمتلك موضوعًا يبعث التفاؤل، أو التشاؤم، لا يهم أيضًا، المهم أننا نتحدث عن كرة القدم، لعبة تتجسد فيها ذروة الإثارة البشرية، في المشهد المفعم بالحياة.

وفور انطلاق صافرة الحكم، يغرق العالم في بحر من الترقب المشترك، تتردد أصداء هدير الجماهير في الملاعب، وتتراقص الأعلام، وتتوحد القلوب في ابتهاج الانتصار أو تتداعى في مرارة الهزيمة. 

كرنفالات من الشغف، والترقب، والأمل، تجمع البشر من مختلف الأجناس والأعراق واللغات تحت راية واحدة: حب جلد مدور لا يسمن ولا يغني من جوع، تجربة جماعية تتجاوز حدود اللعبة، وتصنع ذكريات لا تُمحى وتخلق روابط عاطفية عميقة. الغريب حقا، وبينما يغوص العالم في هذا الاحتفال بالروح الرياضية، فإن نهاية هذه الملحمة تترك وراءها إحساسًا عميقًا بالفراغ والكآبة والحزن للعديد من الأفراد.

فما الذي يحدث عندما يُسدل الستار على هذه الملاحم؟ عندما تعود الملاعب إلى صمتها، وتتفرق الجماهير، ويعود اللاعبون إلى ديارهم؟ هل ينتهي كل شيء بانتهاء صافرة النهاية؟ أم أن هناك شعورًا خفيًا، وفراغًا عميقًا، يتركه هذا الغياب المفاجئ للعبة ككل؟ 

هذه القصة ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي رحلة استكشافية في أعماق النفس البشرية، محاولة لفهم ظاهرة غريبة ولكنها حقيقية: “اكتئاب ما بعد البطولات الكبرى”، أو “اكتئاب ما قبل الموسم” هل هي مجرد حالة عابرة من الحزن؟ أم أنها استجابة معقدة لتغيرات كيميائية ونفسية عميقة؟ وماذا تخبرنا هذه الظاهرة عن الأهمية الحقيقية لكرة القدم في حياتنا، ليس فقط كرياضة، بل كجزء لا يتجزأ من هويتنا ومزاجنا الجماعي؟ 

حزن عابر

تُعرف تلك الظاهرة بأنها حالة نفسية عابرة تظهر بعد انتهاء حدث رياضي كبير، أو قبل بداية الموسم الكروي، هي ليست اكتئابًا سريريًا بالمعنى الطبي الذي يتطلب تشخيصًا وعلاجًا متخصصًا، بل هي أقرب إلى استجابة طبيعية للتحول المفاجئ من ذروة الإثارة والترقب إلى الروتين اليومي الممل وشديد البلادة، تتشابه أعراض هذه الحالة مع بعض أعراض الاكتئاب العام، ولكنها غالبًا ما تكون أقل حدة وأقصر مدة. 

تخيل نفسك وقد عشت أسابيعًا طويلة من الترقب الشديد، كل يوم يحمل معه جرعة من ضخمة الأدرينالين، كل مباراة بها قصة تروى، وكل هدف هو انفجار من الفرح، أو الحزن، ثم، فجأة، يتوقف كل ذلك، هذا التوقف المفاجئ يترك فراغًا، وهذا الفراغ هو ما يولد الأعراض الشائعة وأهمها ما يلي: 

الحزن والفراغ: شعور غامر بالحزن، وكأن شيئًا ثمينًا قد فُقد. فراغ يملأ الروح، حيث كانت الإثارة والترقب تملأها. 

التهيج والعصبية: قد تجد نفسك سريع الغضب، أو تشعر بالتوتر لأتفه الأسباب. كأن الجهاز العصبي لم يعد قادرًا على التكيف مع الهدوء بعد كل هذا الصخب. 

فقدان الاهتمام والمتعة: الأنشطة اليومية التي كانت ممتعة في السابق قد تبدو باهتة، بلا طعم. الشغف الذي كان يشتعل لمتابعة المباريات قد انطفأ، تاركًا وراءه رمادًا من اللامبالاة. 

الكسل والخمول: شعور بالتعب العام، نقص الطاقة، أو رغبة في الانعزال وعدم القيام بأي شيء. كأن الجسد والعقل يحتاجان إلى فترة نقاهة بعد هذا المجهود العاطفي الهائل.

صعوبات في التركيز والنوم: قد تجد صعوبة في التركيز على مهام العمل أو الدراسة، وقد تتأثر جودة نومك، فتتقلب بين الأرق والأحلام المضطربة. 

تتراوح مدة هذه الحالة عادةً من بضعة أيام إلى بضعة أسابيع، وهي فترة كافية لتترك أثرها على المزاج العام. لكن حدتها تتفاوت بشكل كبير بين الأفراد، فالمشجع الذي يعيش كل لحظة مع فريقه، ويستثمر فيه كل مشاعره، قد يعاني أكثر من شخص يتابع المباريات بشكل عابر، كما أن نتائج البطولات تلعب دورًا كبيرًا؛ ففرحة الفوز قد تخفف من حدة هذه الأعراض، بينما مرارة الخسارة قد تزيدها سوءًا. 

الاستعداد النفسي للفرد، وروتين حياته اليومي، كلها عوامل تساهم في تشكيل هذه التجربة الفريدة لكل شخص. ولكن، ما الذي يحدث داخل أجسادنا وأدمغتنا ليولد هذا الشعور بالفراغ؟ هل هو مجرد شعور، أم أن هناك تفسيرًا علميًا أعمق؟

دوبامين every where 

للإجابة على سؤال “ما الذي يحدث داخل أجسادنا وأدمغتنا؟”، يجب أن نغوص في عالم الكيمياء العصبية، وتحديدًا في دور الناقل العصبي الغريب والمسمى بـ “الدوبامين”. هذا الجزيء الصغير، الذي يُلقب بـ”هرمون السعادة” أو “جزيء المكافأة”، هو المحرك الرئيسي لنظام المكافأة في الدماغ، المسؤول عن المتعة، والدافع، والتعلم. إنه الوقود الذي يدفعنا نحو الأهداف، ويمنحنا شعورًا بالرضا عند تحقيقها.

وخلال البطولات الكبرى، يتحول الدماغ إلى مصنع للدوبامين. كل هدف يسجل، كل تمريرة متقنة، كل هجمة خطيرة، كل فوز يحقق، يترجمها الدماغ إلى إفرازات غزيرة من هذا الناقل العصبي. تخيل لاعبًا يسجل هدفًا حاسمًا في اللحظات الأخيرة من مباراة مصيرية، أو مشجعًا يرى فريقه يرفع الكأس بعد سنوات من الانتظار. 

هذه اللحظات ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي في حقيقتها هباتٌ وانفجارات كيميائية تحدث داخل الدماغ، تغمره بكميات هائلة من الدوبامين، مما يخلق شعورًا بالنشوة، والفرح، والتحفيز الذي لا يضاهى. هذا الاندفاع الدوباميني هو ما يجعلنا نلتصق بالشاشات، ونصرخ بأعلى أصواتنا، ونعيش كل لحظة بشغف جنوني، ولكن، كما هي العادة، فإن لكل قمة قاع، وما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع على جدور رقبته. 

عزيزي المشجع.. توقف عن متابعة أخبار الميركاتو حالًا

ولذلك فالمشكلة تكمن في أن هذا الاندفاع الكبير والمستمر للدوبامين لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فبمجرد انتهاء البطولة، تتوقف هذه المحفزات القوية فجأة، تختفي الأهداف، تتوقف الصرخات، وتعود الحياة إلى روتينها العادي والممل والسخيف، كرة القدم وسيلة للهروب من ضغوطات الحياة، هذا التوقف المفاجئ يؤدي إلى انخفاض حاد في مستويات الدوبامين في الدماغ، مما يترك نوعًا من “الفراغ الكيميائي” أو “تأثيرات الانسحاب، يشبه هذا إلى حد كبير ما يحدث عند التوقف عن أي نشاط يسبب إدمانًا سلوكيًا أو كيميائيًا. 

الدماغ الذي اعتاد على جرعات عالية من الدوبامين يجد نفسه فجأة محرومًا منها. هذا الحرمان يفسر الشعور بالحزن، والفراغ، وفقدان الدافع، والتهيج الذي هو استجابة فسيولوجية معقدة لعدم التوازن الكيميائي. الدماغ يحتاج إلى وقت لإعادة ضبط نفسه، وإعادة بناء مستويات الدوبامين الطبيعية. هذا الفهم للجانب الكيميائي للظاهرة يساعدنا على إدراك أنها ليست مجرد “حالة نفسية” بالمعنى التقليدي، بل هي تفاعل معقد بين العقل والجسد. ولكن، من هم الأكثر عرضة لهذه الظاهرة؟ وهل يتأثر الجميع بنفس الطريقة؟

من اللاعب إلى المشجع

لا تقتصر ظاهرة “اكتئاب ما بعد البطولات الكبرى” على فئة واحدة، بل تمتد لتشمل كل من استثمر جزءًا من روحه وعاطفته في هذا الحدث الرياضي الضخم. ومع ذلك، تختلف التحديات والخبرات الفريدة لكل مجموعة، مما يستدعي فهمًا معمقًا لتأثير الظاهرة على كل منهم. 

فبالنسبة للاعبين المحترفين مثلًا، تمثل البطولات الكبرى تتويجًا لسنوات من التدريب الشاق والتضحيات، حيث يصلون إلى ذروة لياقتهم البدنية والذهنية، ويعيشون تحت ضغط هائل وتوقعات جماهيرية وإعلامية ضخمة لمدة طويلة من الزمن، يعيشون ويتناسلون في فقاعة من الأدرينالين والدوبامين، مدفوعين بالرغبة في الفوز وتحقيق المجد. ولكن، ما الذي يحدث عندما تنفجر هذه الفقاعة؟

عند انتهاء البطولة، سواء بالفوز أو الخسارة، يواجه اللاعبون فراغًا مفاجئًا. تتوقف التدريبات المكثفة، وتختفي الأضواء، ويقل الاهتمام الإعلامي، وعلى الرغم من أن النشاط البدني له تأثير إيجابي عام على الصحة النفسية، إلا أن المتطلبات الشديدة للرياضة يمكن أن تُعرض الصحة النفسية للخطر بشكل متناقض. يمكن أن تزيد من أعراض القلق والاكتئاب بسبب الإفراط في التدريب، والإصابات، والإرهاق. تشير الدراسات إلى أن نسبةً كبيرة من الرياضيين معرضون لخطر الاكتئاب (22.3%) والقلق (12.5%).

وتُقدم العديد من الأمثلة الواقعية للاعبي كرة القدم رفيعي المستوى الذين تحدثوا علنًا عن صراعاتهم مع الاكتئاب بعد الهزائم الكبرى أو الانتكاسات المهنية. من هؤلاء مايكل كاريك، الذي عانى من الاكتئاب لمدة عامين بعد هزيمة نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2009، وريتشارليسون، الذي فكر في اعتزال كرة القدم بعد إقصاء البرازيل من كأس العالم 2022. 

كما أن الخوف الشديد من الإصابات يمثل عاملًا مساهمًا كبيرًا في مشاكل الصحة النفسية، حيث كشف استطلاع أجرته رابطة اللاعبين المحترفين أن 68% من اللاعبين شعروا أن هذا الخوف يؤثر على صحتهم النفسية، ولذلك فهذا التوقف المفاجئ للعبة بكل ما فيها من حيل وخير وشر يمكن أن يؤدي إلى:

فراغ عاطفي ونفسي: بعد أن كان الهدف الأسمى هو الفوز بالبطولة، يصبح هناك شعور بالضياع أو عدم وجود هدف واضح. كأنهم فقدوا بوصلتهم بعد أن وصلوا إلى وجهتهم.

إرهاق جسدي وذهني: على الرغم من انتهاء المنافسة، قد يستمر الإرهاق الناتج عن الضغط البدني والنفسي الهائل. الجسد والعقل منهكان، ويحتاجان إلى وقت طويل للتعافي. 

الشعور بالوحدة والعزلة: قد يجد اللاعبون أنفسهم بعيدين عن زملائهم في الفريق والبيئة التنافسية التي اعتادوا عليها. فجأة، يعودون إلى حياتهم الفردية بعد أن كانوا جزءًا من كيان واحد. 

صعوبة في إعادة التكيف: العودة إلى الروتين اليومي أو التحضير للموسم الجديد قد يكون صعبًا، خاصة بعد تجربة عاطفية مكثفة. كأنهم يحاولون الركض بعد أن اعتادوا على الطيران.

كذلك المشجعون، الذين هم قلب كرة القدم النابض، وممثلي الشغف، والولاء، والانتماء. بالنسبة للكثيرين، كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل هي جزء لا يتجزأ من هويتهم وحياتهم اليومية. خلال البطولات الكبرى، ينخرط المشجعون عاطفيًا بشكل كامل، يعيشون كل لحظة، يفرحون للانتصارات، ويحزنون للهزائم. ولكن، ماذا بعد أن يهدأ الصخب؟

تعني نهاية البطولات عودة مفاجئة إلى الروتين وفقدان “نمط الحياة شبه اليومي، المتحمس، والسريع والمتجدد، مما يترك فراغًا عميقًا في النفس، وتشمل الأعراض التي أبلغ عنها المشجعون شعورًا عامًا بالخمول، واحمرار العينين، وفقدان الشهية، والميل إلى مشاهدة التلفزيون بشكل مفرط كآلية تعويضية.

الأفراد الذين لديهم نقاط ضعف موجودة مسبقًا، مثل المشاكل الشخصية المتعلقة بالعمل أو الدراسة أو الحياة المنزلية، هم الأكثر عرضة للإصابة. إذ تُعد كرة القدم بمثابة هروب مؤقت غني بالدوبامين. ويمكن أن تكون العودة إلى الواقع بعد هذه التجربة المكثفة والعامرة “سقوطًا حرًا” صعبًا، مع عواقب وخيمة محتملة.

يُعد هذا الشعور طبيعيًا، ويعود أساسًا إلى تعود المشجعين على حالة الإثارة والتفاعل المستمر. إن فهم هذه التحديات الفريدة لكل فئة يساعد في تطوير استراتيجيات دعم مناسبة، والتعامل مع هذه الظاهرة بوعي أكبر. ولكن، هل هناك عوامل أخرى تزيد من حدة هذه الظاهرة؟ وكيف يمكننا التعامل معها؟

الإرهاق التراكمي 

إلى جانب الفراغ الكيميائي والنفسي الذي يتركه انتهاء البطولات، هناك عوامل أخرى تزيد من حدة هذا هذا الاكتئاب الغريب، منها الإرهاق التراكمي، أو ما يُعرف بالإفراط في التدريب (Over training)، هو حالة تحدث عندما يتجاوز الحمل التدريبي والضغط النفسي قدرة الجسم على التعافي، ففي سياق البطولات الكبرى، يتعرض اللاعبون والمدربون، وحتى المشجعون المنخرطون بشدة، لضغط هائل ومستمر. هذا الضغط لا يقتصر على الجانب البدني فقط، بل يمتد ليشمل الجانب الذهني والعاطفي أيضًا. 

ويرتبط الإرهاق التراكمي ارتباطًا مباشرًا بظاهرة “إرهاق الرياضيين” (Burnout)، وهي حالة شديدة الغرابة والسخافة، تتميز بالانسحاب الاجتماعي والبدني والعاطفي من الأنشطة التي كانت ممتعة سابقًا، وذلك نتيجة التعرض للضغط المزمن. ينشأ الإرهاق عندما يتعرض الرياضيون لمطالب مستمرة في رياضتهم دون فرص كافية للراحة والتعافي البدني والعقلي، مما يؤدي في النهاية إلى تجاوز قدرتهم على التكيف.

وتشمل العوامل المساهمة حجم التدريب الكبير، والتدريب المفرط حتى الفشل، وسوء عادات النوم، وعدم كفاية السعرات الحرارية أو البروتين، والضغط العام الكبير في الحياة. تمتد أعراض الإرهاق إلى ما هو أبعد من الإرهاق البدني لتشمل انخفاضًا ملحوظًا في الأداء، وآلامًا عضلية ومفصلية مستمرة، وضعفًا في المناعة يؤدي إلى الكثير من الأمراض النفسية والبدنية، وتغيرات كبيرة في المزاج مثل زيادة الغضب والتهيج وتدني احترام الذات، ويُعد الإرهاق التراكمي شكلاً أعمق وأكثر خبثًا من الإصابة النفسية.

على عكس الإصابات الجسدية الحادة التي غالبًا ما تكون مرئية وقابلة للتشخيص، فإن الإرهاق هو انهيار منهجي يصعب اكتشافه، مما يؤدي غالبًا إلى عواقب طويلة الأجل على الصحة النفسية، فلا يوجد اختبار محدد لتشخيص المتلازمة، وهذا يجعل من الإرهاق “إصابة غير مرئية” يمكن أن تؤدي إلى تآكل هوية الرياضي بشكل عام ومزمن أكثر بكثير من أي مرض جسدي، مما يؤدي غالبًا إلى الانسحاب من الرياضة نفسها، كل تلك العوامل تعمل كوقود يغذي نار الحزن والفراغ، مما يجعل التعافي أكثر صعوبة.  

أما بالنسبة للمشجعين، فعلى الرغم من أن الإرهاق التراكمي لا ينطبق عليهم بالمعنى البدني المباشر، إلا أن الانخراط العاطفي والنفسي المكثف، والسهر لمتابعة المباريات، والتوتر المستمر، يمكن أن يؤدي إلى نوع من الإرهاق الذهني والعاطفي. هذا الإرهاق يجعلهم أكثر عرضة للشعور بالفراغ والحزن بعد انتهاء الإثارة، كأنهم عاشوا في حالة تأهب قصوى لأسابيع، وفجأة انخفض مستوى الأدرينالين لديهم بشكل حاد.

ويلعب الإعلام دورًا مزدوجًا في هذه الظاهرة. فبينما يساهم في بناء الإثارة والترقب قبل وأثناء البطولة، يمكن أن يكون له تأثير سلبي كبير بعد انتهائها، خاصة في حالات الخسارة أو الأداء غير المرضي. إنه سكين ذو حدين، يمكن أن يبني ويمكن أن يهدم، وهنا يمكن أن نوجز دور الإعلام في عدد من النقاط: 

تضخيم الخسائر: يميل الإعلام، خاصة في بعض الأحيان، إلى تضخيم الخسائر والإخفاقات، وتحميل المسؤولية بشكل مبالغ فيه على اللاعبين أو المدربين. هذا الخطاب السلبي يزيد من الضغط النفسي على المعنيين، ويغذي مشاعر الإحباط والحزن لدى المشجعين. كأنهم يصبون الزيت على النار، فيزيدون من لهيب الألم.

التركيز على السلبيات: بدلاً من تسليط الضوء على الإيجابيات أو الدروس المستفادة، قد يركز الإعلام على الجوانب السلبية، مما يعمق الشعور باليأس والفراغ. إنهم يختارون أن يروا النصف الفارغ من الكأس، متجاهلين النصف الممتلئ. 

خلق توقعات غير واقعية: قبل البطولة، قد يساهم الإعلام في خلق توقعات غير واقعية للنجاح، مما يجعل صدمة الواقع بعد الخسارة أكثر قسوة. كأنهم يبنون قصورًا من الرمال، ثم يلومون البحر عندما تنهار.

هذا الإرهاق التراكمي، ليس مجرد انهيار جسدي، بل هو سارق صامتٌ يختلس بهجة الروح من أقبية الجسد، فحين يُحول الرياضي جسده إلى آلة دائمة العمل لا تعرف الراحة، ويُحول المشجع قلبه إلى مرجلٍ للتوتر، تصير البطولة برمتها ساحةً لـ”طقس دموي” حديث: نُقدّم فيه أرواحنا قربانًا على مذبحِ الإثارة الزائفة. 

الإرهاق التراكمي هو الوجه الآخر لعبادة البطولات الحديثة: حيث تستنزف طاقات البشر كي تروج لأسطورة زائلة. الخطر الحقيقي ليس في آلام العضلات، بل في تشظي الهوية، فبعد أن كانت الرياضة مرآة تعيد للإنسانِ اكتشافَ ذاته، أصبح هذا ـ”الانسحابُ الاجتماعي” الذي يلي البطولة بمثابة هروب من مرآة الوهم، ولذلك يبقى السؤال هنا قائمًا: كيف نصنع مناعة ضد هذا الانهيار؟

استراتيجيات التعايش

للتعامل مع “اكتئاب ما بعد البطولات الكبرى” وانتظار الموسم الجديد، يمكن للجماهير تبني عدة استراتيجيات تساعدهم على تجاوز هذه الفترة بسلاسة أكبر، وتحويل الفراغ إلى فرصة للنمو والتجديد، يوجزها علم النفس في 7 نقاط: 

تقبل المشاعر: من الطبيعي الشعور بالحزن أو الفراغ. تقبل هذه المشاعر كجزء طبيعي من التجربة يساعد على تجاوزها. لا تخجل من حزنك، فهو دليل على شغفك.

العودة إلى الروتين: استئناف الأنشطة اليومية والعمل أو الدراسة بجدية يساعد على ملء الفراغ وإعادة التركيز. الروتين قد يبدو مملًا، لكنه يمنح الاستقرار. 

التواصل الاجتماعي: عدم عزل النفس والعودة إلى لقاء الأصدقاء والعائلة، ومشاركة المشاعر مع الآخرين الذين يمرون بنفس التجربة. فالمشاركة تخفف العبء، وتذكرك بأنك لست وحدك الوحيد. 

تجنب الإفراط في المراجعة: تجنب إعادة مشاهدة المباريات أو تحليلها بشكل مفرط، خاصة إذا كانت النتائج سلبية، لتجنب تعميق مشاعر الحزن. الماضي قد يكون مؤلمًا، والمستقبل مازال في ضوء المجهول. 

البحث عن اهتمامات بديلة: استكشاف هوايات جديدة، ممارسة الرياضة، القراءة، أو الانخراط في أنشطة اجتماعية أخرى لملء الفراغ. الحياة أوسع من مجرد كرة القدم.

التركيز على المستقبل: التطلع إلى الموسم الجديد، متابعة أخبار الانتقالات، والتحضيرات للموسم القادم، يمكن أن يجدد الأمل والإثارة. الأمل هو شعلة لا تنطفئ. 

الاحتفال باللحظات الإيجابية: تذكر اللحظات الجميلة والإيجابية التي جلبتها البطولة، سواء كانت انتصارات أو لحظات جماعية ممتعة. الفرحة الحقيقية تكمن في الذكريات الجميلة. 

استراتيجيات التكيف مع فراغ ما بعد البطولات

الفئة الاستراتيجيات المقترحة
الرفاهية الذهنية والعاطفية – التحضير الذهني للهبوط العاطفي. – تقبل أن مشاعر الحزن ستزول. – البحث بنشاط عن الجوانب الإيجابية والتركيز عليها. – استعادة ومشاركة الذكريات الإيجابية (مثل الصور والقصص). – تخصيص وقت للحداد على “فقدان” الموسم. – التحول بوعي من الأفكار السلبية المتطفلة إلى تفكير أكثر إيجابية وإنتاجية.
المشاركة الاجتماعية والسلوكية – الاستفادة من شبكتك الاجتماعية الحالية (الأصدقاء، العائلة). – التحدث بصراحة عن مشاعرك مع الآخرين الذين يشاركونك شغفك. – تجنب العزلة الذاتية بنشاط. – تنمية علاقات جديدة واستكشاف مجتمعات جديدة. – التفكير في “فك الارتباط” المؤقت من التشجيع المكثف لاكتساب مسافة عاطفية.
التحويل وإعادة الانخراط – تحديد أهداف جديدة قابلة للتحقيق في مجالات أخرى من الحياة. – تنويع اهتماماتك والانخراط في هوايات أخرى (مثل الألعاب، القراءة). – تحويل الانتباه إلى مواسم رياضية أخرى (مثل كرة السلة، البيسبول، الهوكي، الفورمولا 1). – متابعة أخبار كرة القدم في غير موسمها (الانتقالات الحرة، المسودة، معسكرات التدريب) للحفاظ على الاتصال.
الرفاهية البدنية – تطوير والحفاظ على عادات صحية: ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، التغذية المتوازنة، الترطيب الكافي، والنوم الكافي (7-8 ساعات).
متى يجب طلب المساعدة المهنية – إذا استمرت أعراض الحزن أو عدم الاهتمام أو ضعف الأداء لأكثر من 2-4 أسابيع. 

إن تبني هذه الاستراتيجيات يساعد المشجعين على تجاوز فترة ما بعد البطولة بسلاسة أكبر، والتحضير نفسيًا لعودة الإثارة مع الموسم الجديد، الترقب هو عملية نفسية أساسية وجزء مهم من كونك مشجعًا، حيث يؤدي إلى إطلاق الدوبامين وتوليد المشاعر الإيجابية.

ويستخدم المشجعون بشكل طبيعي التجارب السابقة للتنبؤ بالمستقبل، كما يساهم ترقب الأحداث الإيجابية بشكل كبير في الرفاهية العامة والصحة النفسية، مما يوفر راحة من ضغوط الحياة اليومية، غالبًا ما يُملأ “الفراغ” الذي تتركه نهاية البطولة الكبرى أو الدوري المحلي بتحويل التركيز إلى هذه التطورات خلال فترة التوقف أو إلى رياضات أخرى، مما يحافظ على دورة مستمرة من المشاركة والترقب.

ويجب التأكيد على أن تلك الاستراتيجيات فعالة لمعظم الناس فعلًا، ولكن إذا استمرت أعراض الحزن أو عدم الاهتمام أو ضعف الأداء لأكثر من 2-4 أسابيع، فمن الأهمية بمكان طلب المساعدة المهنية أو إجراء فحص للاكتئاب. ولكن، بعد كل هذا التحليل، يبرز سؤال جوهري: هل كرة القدم مهمة للمجتمعات للحد الذي يجعل من عدم وجودها شيئًا كئيبًا بالنسبة للجماهير؟ وما هي تأثيراتها الاجتماعية والفلسفية والنفسية؟ 

الابعاد الحقيقية

كرة القدم تشبه الحياة بشكل كبير، كلتاهما مدوّرتان، وكلتاهما على قلق كأن الريح لم يفارق الأضلع والجوانح وجنبات الملعب، وكلتاهما لا تمتان للعدالة بصلة، إضافةً إلى انسجامهما الرهيب مع الخرافات والآمال والضغائن والخبث. الفارق الوحيد أن الحياة تسيل فيها الدماء لأسباب كثيرة الأديان، والأعراق، والثقافات، والفلكلور. 

أما كرة القدم، فتقدم بديلًا آمنًا للجميع، الكل يلعب ويئن ويشجب ويتصارع ويتصادم: “وفي النهاية يبقى الجميع بصحة جيدة”، على حد تعبير الشاعر تميم البرغوثي في حفل ختام كأس العالم بقطر، كما أن الوظائف المجتمعية المتعددة والعميقة لكرة القدم، بما في ذلك توفير الهوية الجماعية، وتعزيز المجتمع، والتعبير عن القيم المشتركة، وتقديم إطار منظم للتعبير العاطفي الجماعي، ترفعها فوق مجرد الترفيه، لتعمل كمؤسسة مدنية أو ثقافية قوية تُلبّي احتياجات نفسية واجتماعية عميقة، كانت تُلبّى تقليديًا بالممارسات الدينية أو الروايات الوطنية.

ففيها الصراع الدائم بين الفوز والخسارة، فيها الأمل في تحقيق المستحيل، وفيها اليأس من الهزيمة. كل مباراة هي قصة درامية تتكشف أمام أعيننا، تحمل في طياتها دروسًا عن المثابرة، العمل الجماعي، وأهمية اللحظة. وكل صافرة حكم تذكرنا بأن الحياة مليئة بالصعود والهبوط، وأن الأمل لا يموت أبدًا، وكل رشوة أو فضيحة، تذكرنا بأن الرأسمالية قد وسَّخَت كل شئ، وجعلته قميئًا ومذريًا، حتى كرة القدم. 

ما بعد السقوط: هل يمكن لرودريجو إعادة تشكيل هويته خارج ظل ريال مدريد؟

كما أن فيها بحثًا ما عن المعنى، ففي عالم يتسم بالروتين والملل أحيانًا، توفر كرة القدم معنى وهدفًا للكثيرين. إنها تمنحهم شيئًا يتطلعون إليه، ويستثمرون فيه عواطفهم وطاقاتهم، مما يضفي على حياتهم بعدًا إضافيًا من الإثارة والترقب، يذكرنا بأن الحياة ليست مجرد عمل وواجبات، بل هي أيضًا شغف ومتعة، صحيح أن هذا الشغف وتلك المتعة مصممون خصيصًا لخدمة أرباح بعض الرجال النافذين في الكوكب، ولكن، أهو تنفيس. 

كما تتضمن كرة القدم لحظات من الجمال والإبداع الخالص، من المهارات الفردية المذهلة إلى التكتيكات الجماعية المعقدة. هذه اللحظات الفنية تثير الإعجاب والدهشة، وتتجاوز مرحلة المنافسة الرياضية، لتصل نحو كلمة “الفن” الذي يجمع بين القوة والرشاقة، والذكاء والمهارة، من الناحية الفلسفية، تجسد كرة القدم مبادئ بشرية أساسية مثل العمل الجماعي، والانضباط، والمرونة، واللعب النظيف. إنها توفر نقطة محورية يمكن للأفراد من خلالها تشكيل هويتهم، لتصبح جزءًا لا يتجزأ مما هم عليه.

كما أن الطقوس الجماعية مثل الترقب قبل المباراة،و الاندفاعات العاطفية أثناء المباراة، والتحليل بعد المباراة)، والهوية المشتركة مع فريق أو أمة، والتفريغ العاطفي للمشاعر الجماعية، والشعور العميق بالانتماء الذي توفره كرة القدم، كلها تُعيد إنتاج العديد من الوظائف التي كانت تُقدّمها المؤسسات الدينية أو الروايات الوطنية الكبرى تقليديًا. 

إنها تُقدم إطارًا منظمًا ومتاحًا عالميًا للملايين لتجربة المعنى والهدف والتعبير العاطفي الجماعي خارج حدود حياتهم الفردية، كما إن شدة هذه التجارب المشتركة، التي تُضخمها الاستجابات العصبية الكيميائية مثل اندفاعات الدوبامين، تُنشئ رابطًا قويًا، يكاد يكون روحيًا، بين المشاركين. وبالتالي، فإن غيابها يترك فراغًا ليس للعبة ترفيهية، بل فراغًا لمرتكز اجتماعي ونفسي مهم يساعد في تحديد وتوحيد المجتمعات.

ولذلك هل كرة القدم مهمة للمجتمعات للحد الذي يجعل من عدم وجودها شيئًا كئيبًا بالنسبة للجماهير؟ الإجابة، بكل وضوح، هي نعم، كرة القدم مهمة جدًا، حتى أنها استبدلت الصراعات التقليدية في كل شيء، فبينما كان المحاربون العظام قديمًا هم نجوم المجتمع، الذين يتقاضون أجورًا مرتفعة، وكان الجنرالات هم أصحاب الكلمة العليا. أما اليوم، فقد استبدل اللاعب كل ذلك، وأصبحوا نجوم المجتمع فعلًا. 

ولذلك يمكن القول إن “اكتئاب ما بعد البطولات الكبرى” ليس مجرد حزن عابر، بل هو دليل على الأهمية العميقة لكرة القدم في حياتنا. إنه تذكير بأن هذه اللعبة ليست مجرد 22 لاعبًا يركضون خلف كرة، بل هي ظاهرة ثقافية واجتماعية ونفسية وفلسفية، تشكل جزءًا لا يتجزأ من وجدان الملايين حول العالم. 

وعندما يهدأ الصخب، ويسدل الستار، يبقى الأمل في موسم جديد، وبطولة قادمة، لتعود الحياة إلى نبضها، وتتجدد حكاية الشغف والفراغ، في دورة لا تنتهي من المشاعر الإنسانية.



تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *