مساء الخير، عندما خرجت الأخبار من “الكادينا سير الاسبانية” (Cadena Ser) تفيد بأن نادي برشلونة لن يستطيع تجديد عقد أسطورته ليونيل ميسي، لم يتوقع أحد أن يأتي التعليق المنطقي الوحيد من لابورتا نفسه، فبالرغم من أنها كانت فرصته المثالية للضرب تحت الحزام، إلا أن تصريحاته كانت معبرة بشكل ما عن معقولية الأمر: “لقد قطع ليونيل مشواره مع الفريق بسبب بعض المشكلات الاقتصادية”.
صحيح أن لابورتا كذاب ومخادع بدرجة ما أو أخرى، ولنا في قصة نيجريرا عبرة، إلا أن تصريحاته هذه المرة جانبها الصواب، مشاكل اقتصادية، هكذا بلا أي تفاصيل أخرى، وتلك المشاكل سيعمل الفريق على حلها من أجل إعادة ليونيل مرة أخرى، هل كانت في نيته أن يعيده حقًا؟ ربما نعم، وربما لا، ولكن في الحالتين يجب أن نسأل: كيف سيُخرج لابورتا برشلونة من الأزمة الاقتصادية الممتدة والغريبة؟
99% قوانين
دعنا أولا نخبرك بماهية الوضع على وعد بتجنب التفاصيل القانونية المملة، تُعد كرة القدم الحديثة مزيجًا معقدًا من الشغف الرياضي والإدارة المالية الدقيقة، وفي قلب هذا التوازن، تبرز الدوريات الكبرى ككيانات اقتصادية ضخمة، تفرض قواعد صارمة لضمان الاستدامة والعدالة التنافسية، (نحن نتحدث هنا عن المفروض وليس الحاصل فعلًا). الدوري الإسباني (الليجا) ليس استثناءً، حيث يطبق هو الآخر مجموعة من اللوائح المالية.
على الجانب الآخر، يمر نادي برشلونة، بفترة مالية عصيبة منذ سنوات، تفاقمت بسبب عوامل متعددة كجائحة كورونا وارتفاع فاتورة الرواتب، وسرقات وتلاعب إدارة بارتوميو، وفي خضم هذه الأزمة، تولى خوان لابورتا رئاسة النادي، متعهدًا بإعادة الاستقرار المالي مرة أخرى. ولذلك فقد اتخذت إدارته بعض القرارات المالية الجريئة، بما في ذلك تفعيل ما أطلق عليه “الروافع الاقتصادية”، في محاولة لتجاوز القيود المالية التي تفرضها الليجا، وأبرزها ما يُعرف بـ “قاعدة 1/1″، ما هي تلك القاعدة؟
حسنًا، تُعد “قاعدة 1/1” إحدى أبرز الآليات التي تفرضها رابطة الدوري الإسباني لضمان الاستقرار المالي للأندية، جوهر هذه القاعدة يكمن في ربط قدرة النادي على الإنفاق بإيراداته وقدرته على توفير الأموال، وهذا يعني أن النادي لن يسمح له بإنفاق يورو واحد فقط على التعاقدات الجديدة أو زيادة الرواتب إلا في حالة توفير يورو مقابل من خلال بيع لاعبين أو تخفيض الرواتب أو الإعلانات، أو أي شئ من هذا القبيل.
هذا يعني أن الأندية التي تعاني من مشاكل مالية أو تتجاوز سقف الرواتب المسموح به، تجد نفسها مقيدة بشكل كبير في سوق الانتقالات، ولا يمكنها تسجيل لاعبين جدد إلا بعد إثبات تحقيق التوازن المالي المطلوب، كلام عميق وزي الفل، المشكلة فقط هي أن تأثير هذه القاعدة على تسجيل اللاعبين والإنفاق المالي للأندية عميق ومباشر.
فبدلًا من الإنفاق غير المقيد الذي قد يؤدي إلى تراكم الديون، تُجبر الأندية على تبني نهج مالي أكثر حذرًا وانضباطًا. هذا يحد من قدرة الأندية على التعاقد مع لاعبين بأسعار مرتفعة أو تقديم رواتب ضخمة، ما لم تكن لديها القدرة على توليد إيرادات كافية أو تخفيض نفقاتها الحالية، ولذلك فبالنسبة للأندية التي تعاني ماليًا، مثل برشلونة، تصبح هذه القاعدة تحديًا كبيرًا يتطلب بيع لاعبين أساسيين أو البحث عن مصادر دخل جديدة ومبتكرة لتوفير السيولة اللازمة لتسجيل أي تعاقدات جديدة أيًا كان حجمها.
وتلك القاعدة ليست إستثناءً، إذ تُعد جزءًا لا يتجزأ من منظومة أوسع من القواعد المالية التي تفرضها الليجا، والمعروفة باسم “قواعد اللعب المالي النظيف” (Financial Fair Play – FFP). والتي تهدف إلى حماية الأندية من الإفلاس والديون المفرطة، وضمان بيئة تنافسية عادلة ومستدامة، ومن أبرز هذه القواعد:
حدود الرواتب (Salary Cap): تحدد الليغا سقفًا للرواتب لكل نادٍ بناءً على إيراداته وقدرته المالية. هذا السقف هو الحد الأقصى لإجمالي ما يمكن للنادي إنفاقه على رواتب اللاعبين والجهاز الفني. ويُعاد تقييم هذا السقف بشكل دوري، بسبب تأثره بشكل مباشر بالأداء المالي للنادي. الأندية التي تتجاوز هذا السقف تواجه قيودًا صارمة على تسجيل اللاعبين الجدد أو تجديد عقود اللاعبين الحاليين.
قيود الديون (Debt Limits): تفرض الليجا قيودًا على مستويات الديون التي يمكن للأندية تحملها. تُطلب من الأندية تقديم خطط مالية واضحة لخفض الديون المتراكمة، وتُراقب عن كثب لضمان التزامها بهذه الخطط. الهدف هو منع الأندية من الوقوع في فخ الديون المفرطة التي قد تهدد وجودها.
قواعد اللعب المالي النظيف الأخرى: تشمل هذه القواعد متطلبات الشفافية المالية، وتقديم تقارير مالية دورية، والالتزام بمبدأ التوازن بين الإيرادات والمصروفات. كما تمنع الأندية من الاعتماد بشكل كبير على التمويل من الملاك أو الجهات الخارجية بطرق قد تشوه المنافسة أو تخلق مخاطر مالية.
تساهم هذه القواعد المالية بشكل فعال في حماية الأندية من الإفلاس أو الديون المفرطة من خلال فرض رقابة صارمة على الإنفاق والإيرادات، تمنعها من الإنفاق بما يتجاوز قدرتها على توليد الدخل، هذا النهج الوقائي يحمي الأندية من الانهيار المالي الذي قد يؤثر سلبًا على استقرار الدوري بأكمله.
علاوة على ذلك، تضمن هذه القواعد حماية حقوق اللاعبين المالية. من خلال التأكد من أن الأندية لديها القدرة على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية تجاه اللاعبين، ما يقلل من مخاطر عدم دفع الرواتب والمكافآت.
اللون الرمادي
سنذهب الآن إلى منطقة رمادية شائكة مليئة بالاستنتاجات فاربط الحزام، مستعد؟ جيد؛ المشكلة أن برشلونة وقع تحت تأثير كل تلك القوانين دفعة واحدة، نظرًا لأن القوانين، كما تعلم، لا تأتيك إلا بغتة، وعندما بدأ مجلس إدارة خوان لابورتا الحالي ولايته في عام 2021، كان نادي برشلونة في وضع مالي حرج للغاية، إذ ورث ديونًا هائلة بلغت 1.35 مليار يورو وواجه صافي قيمة سلبية قدرها 451 مليون يورو.
وكان رد فعل الليجا سريعًا وقاسيًا إذ سُمح لبرشلونة بإنفاق 98 مليون يورو فقط على قوة العمل لديه بالكامل، وهو خفض جذري من 506 مليون يورو المسموح بها في الموسم السابق، هذا الحد المُقيَّد بشدة قيَّد أيضًا قدرة النادي على التوقيع مع أي لاعبين جدد أو حتى تجديد العقود القائمة. وهو الذي أدى في النهاية إلى الرحيل المؤلم والقاسي لليونيل ميسي، مما ترك الجماهير في حالة من اليأس والخمول.
ولذلك لجأ لابورتا لحل الأزمة سريعًا وبأسهل الطرق ، كيف ذلك؟ حك لابورتا رأسه وتنهد وفكر مليَّا، ثم فكر مرة أخرى، ووجد أنه لا مناص من استخدام حيلة تحدث كثيرًا حتى غدت مضرب الأمثال، إن أتى الطوفان ضع ولدك تحت قدميك، وولدي الذي يمكنني دهسه في تلك الحالة، هو أصول النادي أما يعرف باسم بـ “الروافع الاقتصادية” (Economic Levers)، هذه الروافع هي عمليات مالية كبرى تتضمن بيع أصول النادي أو حقوقه المستقبلية مقابل الحصول على سيولة نقدية فورية. الله عليك يا مستر لابورتا.
من أهم هذه العمليات التي نفذتها إدارة لابورتا، كان بيع 25% من حقوق البث التلفزيوني، ففي صيف 2022، قام برشلونة ببيع 25% من حقوق البث التلفزيوني لمبارياته لصندوق Sixth Street الاستثماري. بهدف توفير سيولة مالية ضخمة للنادي، وقد أُعلن عنها كحل سريع للأزمة المالية، الأمر الثاني كان بيع جزء من “بارسا ستوديوز” (Barça Studios)، وهي الشركة المسؤولة عن إدارة المحتوى الرقمي للنادي.
إضافة إلى بيع حصة 49.95% في برشلونة للترخيص والتسويق (BLM)، وبرشلونة فيجن (Barca Vision)، شهد هذا الجناح الخاص بالاستغلال الرقمي بيع 49.5% من أسهمه مقابل 200 مليون يورو، ومع ذلك، لم يستلم النادي فعليًا سوى حوالي 65 مليون يورو، مما أدى إلى خسائر قدرها 200 مليون يورو بسبب انخفاض القيمة، ولا يزال النادي يسعى لبيع أسهم بقيمة 40 مليون يورو لم تُدفع بعد.
وعزا لابورتا هذه الصفقات، بالإضافة إلى اتفاق جديد مع مستثمرين من الشرق الأوسط وصفقة أطقم جديدة لمدة سبع سنوات مع نايكي، إلى مساعدة النادي في تلبية المتطلبات المالية وتسجيل اللاعبين. سهلت هذه التدفقات النقدية توقيعات رفيعة المستوى مثل روبرت ليفاندوفسكي، ورافينيا، وجول كوندي، ولكن الأمر مقسم إلى شقين أيضًا
الشق الأول هو نجاح تلك الروافع فعلًا في توفير سيولة مالية فورية للنادي، مما سمح له بتسجيل اللاعبين الجدد الذين تعاقد معهم، وتخفيض كتلة الرواتب، والوفاء ببعض الالتزامات المالية العاجلة والتي لا تقبل التأجيل، وقد ساهمت هذه الأموال في تحسين الوضع المالي الظاهري للنادي، ومكنته مرة أخرى من العودة إلى قاعدة 1:1 ثم إلى السياق القانوني للعب المالي النظيف، ولو بشكل مبدئي وسخيف وقصير الأمد.
أما الشق الثاني، أن تلك الفوائد الفورية أثارت بعض تساؤلات جدية حول استدامتها وتأثيرها على الإيرادات المستقبلية للنادي، فبيع حقوق البث وأصول النادي يعني التنازل عن جزء من الإيرادات المستقبلية، مما قد يحد من قدرة النادي على توليد دخل مستدام ومضمون على المدى الطويل، ما يعني أن هذه الحلول كانت بمثابة “تخدير” للأزمة بدلاً من إيجاد حل جذري لها، وقد تؤدي إلى مشاكل مالية أكبر في المستقبل إذا لم تعوض هذه الإيرادات المفقودة من مصادر أخرى. فهل سيعوض لابورتا حقًا؟ .
1% خرق
حتى الآن، لا، والدليل هو أن القنبلة انفجرت في وجه لابورتا مرة أخرى بعد سنوات قليلة، حيث فقد برشلونة وضع 1:1 مرةً أخرى وبشكل أكثر كثافة في أبريل الماضي، حيث قررت هيئة التحقق من الميزانية أن النادي يفتقر إلى حد كافٍ لتكلفة الفريق بناءً على البيانات المالية، وهذا يعني أن النادي لم يعد بإمكانه استخدام 100% من الرواتب المحررة أو إيرادات بيع اللاعبين لتعزيزات جديدة، وبدلاً من ذلك، اقتصر على استخدام 60% من الرواتب المحررة و20% فقط من أرباح بيع اللاعبين لإعادة الاستثمار.
ولاستعادة الوضع القانوني مرةً أخرى، سيحتاج برشلونة بحاجة إلى توليد دخل إضافي كبير أو الانخراط في معاملات رأسمالية كبيرة، ويتجلى هذا الصراع المستمر في التقارير المتناقضة المحيطة بوضعهم الحالي في يوليو 2025، فبينما أفادت صحيفة “سبورت” أن خافيير تيباس قد أكد أن برشلونة سيعود إلى حد الرواتب الخاص به، فإن هذا يتعارض بشكل مباشر مع تصريح تيباس نفسه قبل أقل من 24 ساعة، حيث أكد أن “برشلونة لن يكون قادرًا على تسجيل نيكو ويليامز إذا تمت الصفقة”. وذلك قبل فشلها طبعًا.
هذا التباين في التصريحات يشير بقوة إلى أن الوضع “الرسمي” لوضع برشلونة المالي ليس تقييمًا ثابتًا أو موضوعيًا بحتًا، بل هو عملية ديناميكية تتأثر بالمفاوضات المستمرة والتعديلات المالية في الوقت الفعلي، وربما الاعتبارات السياسية بين الليجا والنادي، والأهم من ذلك، أن برشلونة لا يزال بحاجة إلى حوالي 30 مليون يورو ليكون قادرًا على تسجيل بعض الأهداف الرئيسية مثل راشفورد وحارس المرمى خوان جارسيا.
ضيق الوقت سيجعل برشلونة يلعب على المضمون مرةً أخرى، عن طريق التخلص فعلًا من اللاعبين ذوي الأجور المرتفعة مثل انسو فاتي وكليمنت لنجليه وبابلو توري، كما يرتبط أندرياس كريستنسن بالانتقال، مما سيحرر راتبه البالغ 9 ملايين يورو، كما يمكن أن يوفر خروج مارك أندريه تير شتيغن المحتمل راحة كبيرة في الرواتب، على الرغم من أن أجوره المؤجلة والكثيرة تجعل أي مفاوضات انتقال معه معقدة وطويلة.
كما تظهر بعض مصادر الإيرادات الجديدة، أنه من المتوقع أن تحقق مبيعات قمصان لامين يامال الجديدة بالرقم 10 حوالي 10 ملايين يورو، ومن المتوقع أيضًا أن يؤدي العودة المرتقبة إلى ملعب سبوتيفاي كامب نو للموسم القادم إلى تعزيز الدخل بشكل كبير، تلك الحلول السريعة والمؤقتة والغير مترابطة، ستجعل النادي يمر من الأزمة الحالية بسلام، إذ يتوقع العودة إلى قاعدة 1:1 بحلول أوائل أغسطس، ولكنها، كالعادة، ستبقيه واقفًا على أطراف أصابعه في الموسم القادم، وربما في كل موسم قادم.
التخلص من لاعبين مثل فاتي ولنجليه وكريستنسن ليس استراتيجية جديدة، بل ربما يكون اعترافًا جديدًا بفشل إدارة لابورتا في ضبط الرواتب، ببساطة لأن الأزمة تتكرر منذ 2021، بعد تخفيضات مشابهة لأوباميانج، ودي يونج، عاد النادي لنقطة الصفر مرةً أخرى بسبب غياب سياسة أجور مستدامة، هذه الحلول تثبت أن الإدارة تتعامل مع الأعراض فقط، بينما تستمر كتلة الأجور المرتفعة والديون في النمو.
صحيح أن لابورتا لم يرث ناديًا كاملًا متكاملًا، بل ورث عربة كبدة سيئة السمعة في سوق الجمالية، مليئة بالأمراض والتلوثات والهرجلة وقلة القيمة، إلا أن قلة القيمة تلك، جزء منها، ولو بسيط للغاية، نابع من سياسات لابورتا نفسه، وصحيح أنه يعمل بجد لأجل إصلاح الماضي، لكن هذا العمل تشوبه الكثير من علامات الاستفهام، واليوم، يقف برشلونة في مرحلة انتقالية حساسة.
النادي تجاوز المرحلة الأكثر خطورة من أزمته المالية، لكنه لم يصل بعد إلى بر الأمان الكامل. مثل سفينة نجت من عاصفة عاتية، لكنها لا تزال تحتاج إلى إصلاحات وصيانة قبل أن تعود إلى رحلاتها الطبيعية، والتحديات المستقبلية كثيرة ومعقدة. الديون المتراكمة لا تزال تمثل عبئًا ثقيلًا على كاهل النادي، وتأثير بيع الأصول المستقبلية قد يظهر بشكل أوضح في السنوات القادمة، والمنافسة في سوق كرة القدم الأوروبية تزداد شراسة، مما يتطلب استثمارات مستمرة للحفاظ على القدرة التنافسية العالية.
لابورتا وإدارته اتخذوا قرارات صعبة في ظروف استثنائية. بعض هذه القرارات كانت ضرورية للبقاء، وبعضها الآخر قد يحمل تبعات طويلة الأمد، ربما الحسنة الوحيدة في كل ذلك هي مشروع “إسباي بارسا” لتجديد ملعب الكامب نو، والذي يمثل أملاً كبيرًا لزيادة الإيرادات، لكنه أيضًا يتطلب إدارة مالية دقيقة لتجنب أي أعباء إضافية، فالنادي يحتاج إلى تطوير مصادر دخل جديدة ومبتكرة لتعويض الإيرادات المفقودة من بيع حقوق البث.
اليوم، بينما يقترب النادي من العودة إلى قاعدة 1:1، يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكن برشلونة من تحقيق التوازن بين طموحاته الرياضية وواقعه المالي؟ هل ستكون الروافع الاقتصادية مجرد محطة عبور في رحلة التعافي، أم أنها ستترك آثارًا دائمة على المستقبل؟ الوقت وحده سيجيب على هذه الأسئلة.