قصص بسيطة جداً – نوح «8» دخان نارك عُماني

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


العريش شتاء ٢٠٠٦ 

كانت المرة الأولى التى أمسك فيها ٤٠ ألف جنيه دفعة واحدة، أعطانى عياد باقى حساب الأيام التى عملت فيها معه، كانت التاسعة مساء والمطر لا يريد أن يتوقف، طلب منى البقاء والسهر معه فى المقعد البدوى الملحق بفيلته على البحر، قال إن أسرته غائبة، واليوم خميس والغد إجازة.

 

انضم إلينا ثلاثة من أبناء عمومته، أكلنا المندى ونصبنا القهوة فى المدفئة، وانهالت الحكايات، حكايات متنوعة استدعوها من الماضى، من طفولتهم وصباهم، ظللت أضحك على ما يضحكون، حتى أعطانى عياد سيجارة بانجو، كانت سيجارة حزينة، جعلتنى أنفصل عن المكان الذى أجلس والقهوة التى أمسك والكلام الذى استمع، راحت تقلب فى نفسى كما يقلب البدوى فحم المدفأة المشتعل، وجاء الماضى ليهاجمنى، رأيت أبى وجلبابه ملطخ بالدماء وملامح الحزينة أمى وعجز أختى، والليالى السوداء التى عشتها مع زوجاتى، وضحكة عفاف وصراخ أخوتها الغاضبة، شممت رائحة ضرار، رائحة طبيخها ودروبها وزرعها وبهائمها، شعرت برغبة جارفة فى البكاء، خفت من أن ينكشف حالى، فوقفت، أريد العودة إلى مسكنى، كان وقوفى مفاجئا، حاول عياد أن يثنينى عن الأمر، فالساعة تقترب من الثانية، الجو بارد ولا توجد مواصلات فى هذا الوقت، لم أعطه فرصة للمناقشة، كانت خطوتى تسبقنى، مضى خلفى يعرض أن يوصلنى أحد أقاربه إلى قلب المدينة، قلت لا، أريد أن أمشى وحدى، لا أحتاج لأحد أكثر من نفسى فى هذا الوقت.

 كان طريق البحر خاليا من الناس، السماء ترسل دفعاتها الأخيرة من المطر، حبيبات النهاية، لكن الهواء ما زال قويا يعبث بشبابيك الشليهات المغلقة، أضواء أعمدة الإنارة تضيء وتخفت، مشيت فى منتصف الطريق، وظللت أبكى.

استدعيت عيال عمى عبد القادر، ضربتهم جميعا، قلت لعفاف إننى أحبك، أخذت أمى فى حضنى، هونى عليكى يا صابرة، لا شيء يستحق كل هذه المعاناة.

صرخت وضحكت وغنيت دون أن تتوقف عيناى عن الدموع، كانت دموع كثيرة مؤجلة، شعرت لأول مرة أن لدى حنين لأمى، لا أعرف كيف يجتمع الحنين برغبة صلبة بالابتعاد.

*****

“لو سمحت، لو سمحت”، أفقت على الجملة، كان صاحبها يقف فى جزء مظلم من الطريق، من هذا وماذا يريد؟، تذكرت الأموال التى فى جيبى، وضعت يدى لأتأكد من وجودها، تقدم ناحيتى فبدت ملامحه تتضح شيئا فشيء، وجه خمسينى خائف، حين مسح نظارته الطبية من ضباب المطر كانت يديه ترتعش، بدت عيناه كمن تبحث عن طوق نجاة.

“ربنا يسترك، العربية قطعت منى بنزين، واتسرقنا، ومعايا العيال خايفين مش عارف أسيبهم، عشان خاطر ربنا ساعدني”.

تقدمت معه لأتفحص الأمر، كان صوت بكاء الأطفال أول ما تلقانى، طفلتان صغيرتان لا تتجاوز أكبرهما الثامنة من العمر، تجلسان فى الكنبة الخلفية، ارتعشتا لرؤيتى، حاولت الأم أن تطمئنهما “متخافوش”، بينما نبرة صوتها ممتلئة بالخوف، لاحظت بقايا دماء على أذن إحدى الطفلتين، ورأيت الجروح التى تملأ يدى الأم، أعدت النظر للرجل الواقف تائها جوارى، ماذا حدث؟

******

ظللت أجرى فى الشارع بحثًا عن بنزينة، كان قلبى يدق بشدة، بينما عقلى يحول ما حدث لتلك الأسرة إلى مشاهد، تخيلت مشهد الأب فى سيارته يضحك مع زوجته، بينما طفلتيه تصفقان مع أغانى الكاسيت، كانت الفكرة أن يقضيا يومين فى العريش، إجازة فى مدينة تنام الشتاء، وتخيلت اللصوص وهم يشدون الأقراط الذهبية من أذن الصغيرتين بالقوة، سمعت هلع الأم، أخذوا كل شيء، الجواكيت والساعات، وشرائط الكاسيت وبقايا الطعام، نزعوا كاسيت السيارة، ولا يزال الأب يحمد الله أنهم لم يأخذوا البطارية.

عدت بجركن البنزين، وبعد محاولات عدة، دارت السيارة، هدأت القلوب قليلا، أخرجت كل الأموال التى معى ووضعتها على حجر الرجل وهو جالس على كرسى القيادة.

حاول أن يعرف عنوانى، مكان سكنى، اسم بلدى فى الصعيد، رقم تليفونى، المقهى الذى أجلس عليه، وأقصى ما أعطيته وأنا أمضى هو اسمى، اسمى نوح.

*****

صيف ٢٠١٠

تركت ميدان الرفاعى، وذهبت لأعيش فى حى الصفا، كنت قد اشتريت قطعة أرض هناك، أخذتها تخليص حق من شيخ قبيلة، كنت قد عملت فى تشطيبات بيوت أولاده، كتب لى عقدا أخضر بتلك القطعة، أحطتها بالبلوك، وزرعت فيها شجرة ليمون، واعتدت أن أزورها كل جمعة لأسقى الشجرة، وظللت هكذا لعامين، حتى أكرمنى الله بعمل، ساعدنى فى أن أرفع سورها وأبنى بالداخل غرفة وحمام، وأجاور شجرة الليمون، بشجيرات الزيتون والتفاح والصبَار.

ولم يعطلنى فى استكمال إجراءات إدخال الكهرباء سوى البطاقة، فلم تكن معى سوى الورقية القديمة، كانت المصالح الحكومية أبطلت التعامل معها منذ سنوات، وكنت فى حاجة لزيارة ضرار واستكمال بعض الأوراق لاستخراج الجديدة، لكننى لم أفعل ولن أفعل بأى حال من الأحوال.

لم تمض سوى أيام قليلة مضت على انتقالى للبيت الجديد، حين ظهر عيَاد مرة أخرى، بعد أن انقطع بيننا التواصل لشهور وربما لسنوات بسبب انتقاله مع أسرته للقاهرة، هو من بحث عنى، حتى وصل إلى عنوانى الجديد.

– لدى مشكلة، وأريد أن تساعدنى فيها.

*****

يا كابر النار فى العلو/ دخان نارك عماني

أنت فيك حاجات تعجبني/ وفيك حاجات متعجبنيش

راح نقول ع اللى بيعجبني/ ونقول ع اللى ميعجبنيش

كان الفنان السيناوى الأسمر يغنى، والجمهور من المصيفين الزائرين للمدينة يتفاعلون معه، بينما اختار عيَاد أن نجلس بعيدا، ليكون صوته أعلى من صوت الغناء والموسيقى.

تحدث معى كمن يقدم عرض عمل، قال إن لديه قطعة أرض على البحر قبل الشيخ زويد، يريد أن يحيطها بسور، ويقيم بداخلها فيلا كبيرة، ويريدنى أن أتولى الأمر.

لم أجد فى كلامه ما يستدعى، أن نخرج من البيت ونركب السيارة ونذهب لمكان سياحى، ونجلس بعيدا عن صوت الغناء لنتحدث، ما الأمر؟

اتضح بعض من الأمر، حين اشترط أن أبيت والعاملين معى فى الأرض، على أن يتحمل هو تكاليف هذه المعيشة، ثمن الخيمة التى سنقيمها، والأكل والشرب.

ولماذا كل هذا طالما أننا نستطيع الذهاب والعودة كل يوم، لماذا والمسافة لا تتجاوز الساعة من العريش؟، قال إن الأرض محل نزاع بينه وبين قبيلة أخرى، وأن هذه القبيلة زورت أوراق وأقدمت على وضع عريشه فى الأرض لفرض الأمر الواقع على ملكيتها، أزال العريشة وطرد من فيها، واختارنى للعمل والحراسة، فهذه القبيلة ستفكر ألف مرة قبل افتعال مشكلة مع صعايدة.

كانت الأسعار التى عرضها مغرية، والعمل سيفتح أبواب رزق للكثير، فوافقت.

ظللنا نعمل لستة شهور متتالية، حصلت بعض المناوشات من القبيلة التى تحدث عنها عيَاد، وانتهت جميعها بالفشل فى دخول الأرض ومحاولة السيطرة عليها، اكتملت الفيلا فى النهاية، وأقيم السور، وعاد الصنايعية للمدينة، اتصلت بعيَاد وأخبرته بقرارى العودة أيضا.

لم يكن معى أموال إلا بالقدر التى أدفع به ثمن نقل العدة، وما بقى اشتريت به كيلو عنب وربع جبنة بيضاء وخبز، ودخلت البيت، قمت برص الخشب والعدة، وما أن جلست لأكل، حتى وجدت الباب يسقط من ضربة قوية واحدة، وأمتلأ البيت بالعساكر، أشهر بعضهم السلاح فى وجهى، وهو يصرخ: “ايدك فوق، متتحركش من مكانك”.



‫0 تعليق

اترك تعليقاً