
د. أمينة أبوشهاب
المسألة التي تغيب عن الجميع مع وضوحها التام، والتي يتواطأ فيها الإعلام الغربي أن نتنياهو قد أخذ على نفسه عهداً بإزالة غزة من الوجود بشراً وحجراً. وها هو في المرحلة الأخيرة المرعبة من خطته ليس ضغطاً على حماس وإنما مضياً جهنمياً حثيثاً فيها ومن دون رادع بالطبع، وكل ذلك يتم بالصوت والصورة والإرادة والموافقة الغربية المعلنة أو الضمنية. هذه الخلاصة الصادمة هي ما ترفعها التظاهرات في الغرب على لافتاتها عن مواقف حكوماتها وهي تتبرأ من القتل الجماعي للفلسطينيين.
علينا أن نتذكر أن نتنياهو في الأسابيع والأشهر الأولى من حربه على أهل غزة وما على أرضها من حجر وبيوت ومرافق ونبات كان يردد عبارة مفتاحية مهمة في خطاباته وهي أن طبيعة الحرب الوحشية المتجاوزة لما وراء كل حدود للتوقع إنما هي «دفاع عن الحضارة الغربية». الحضارة الغربية؟ ما هي علاقتها بتدمير غزة كمكان يعيش عليه مجتمع وما هي العلاقة مع إبادة أهلها؟
من المؤكد أن مفهوم نتنيناهو للحضارة الغربية إنما هو التراث والثقافة والعقلية الاستعمارية. تلك العقلية التي تعتقد بالتفوق العنصري والتي تنظر عامة إلى الأراضي التي تهمها وترغب فيها على أنها بلا شعوب حتى ولو كانت مكتظة بالناس مثل غزة.
الأرض والاستيلاء عليها كانت السر كله في قضية فلسطين. واليوم يقود نتنياهو أو يعّبر في الحقيقة بطريقته عن موجة جديدة من النهم الاستعماري على مستوى العالم أكثر شراسة في طلبه للأراضي التي أصبحت هي اللازمة الأهم فيما يأخذ صفة الاستعمار الاقتصادي. غادر الاستعمار القديم من باب ليعود في القرن الواحد والعشرين من باب الاستيلاء الشرس والواسع النطاق التي تقوم فيه الشركات الغربية الكبرى بابتلاع أجود الأراضي في القارة السمراء وفي آسيا وأمريكا اللاتينية ودفع ثمن بخس للغاية لذلك.
غزة هي الموقع على الخارطة الأرضية، حيث تسنّ سكين الاستعمار القديم والجديد وتغرس في اللحم الغزي، وحيث تدور رحى حرب التكنولوجيا الوحشية بمنهجية واضحة على جبهتين: الإبادة البشرية، والوصول إلى سرقة الأرض كاملة عبر التدمير الممنهج للبيئة المبنية.. الإبادة والتدمير كليهما يخدمان الهدف الاستعماري الأهم وهو سرقة الأرض.
لم ير البعض في أرض غزة الجريحة إلا خطوط انحناءات شواطئها، فهي هكذا صالحة لاستثمار اقتصادي تجاري جيد، حيث بنك فوق ركام بيوتها نشر رسوماً لأبراج اسطوانية تحمل عناوين الاستثمار العقاري. وما بين تهيئة البيئة المكانية من خلال تدميرها، وبين انتظار الفتح العقاري الاستثماري الذي بظنهم لن يترك شيئاً من تاريخ غزة، لا القديم فحسب، بل المعاصر، ثمة شيئ مهم. هذا الشيء هو الرعب من أن يقف الغزيون ويرفعوا شارات النصر عند أقرب هدنة. وهو فعلاً كان سيعتبر انتصاراً بكل المقاييس العسكرية والتاريخية، كما سيبدو إعلامياً حقيقة كانتصار. وبطبيعة الحال، فإن هذا الرعب مشترك مع دائرة الغربيين الذين لم يتوقفوا أبداً عن تموين المجازر بالسلاح ولا عن التواطؤ بالسكوت.
لأن غزة ما زالت تمتلك خزيناً ربانياً من الصبر والصمود كان ذلك الاتفاق الضمني على ألاّ يسمح لها أن تخرج منتصرة من خلال صمودها. وفي المرحلة الأخيرة من الحملة على غزة يفعل نتنياهو ما يفعله في القطاع ضمن أريحية الغطاء الواسع للإرث الاستعماري الغربي.
وهو يقدم طابعاً دموياً مقيتاً خاصاً به ودفعة لا سابق في الاختراق والإيغال في الوحشية وذلك باستخدام كامل القوة والسلاح التكنولوجي الذي لا يبارى لكي يشعر الغزيون بأنهم في الرمق الأخير بقتلهم وهم جوعى وبالقضاء على أطفالهم بشكل ممنهج، بحيث يقتل منهم كل يوم ما يعادل عدد طلاب فصل دراسي، هذا إلى رؤيتهم لأرضهم وهي تفقد كل ملامحها بالتدمير.. لا يراد لأهل غزة رفع شارة النصر وإنما بالتأكيد القبض على أوعية طعام الذل الشحيح. وحتى بعد هذا لا يقول الإعلام الغربي شيئاً إلا فيما ندر.
يكتب أحد رؤوس الاستخبارات الإسرائيلية السابقين في مقال له بصحيفة «نيويورك تابمز» بأن استخدام هذا الكم الهائل من القوة العسكرية من إسرائيل ضد أعدائها شيء نادر في التاريخ وقلما حدث. وقال إن هذه القوة قد أثبتت في النهاية أنها ليست لصالح مستقبل الدولة الصهيونية، وأن لها آثاراً كارثية على الرأي العام العالمي الذي لا يقف ضد إسرائيل فحسب، بل كل ما هو إمبريالية وحكومات غربية.
الذين صمدوا في غزة تحت وطأة هذا الثقل العسكري لم يكن صمودهم سدى بالتأكيد، وهذا ما يؤكده صداه عالمياً، حيث ترسم خطوط مستقبل مختلف.
[email protected]