تواصلت «الخليج» مع عدد من المختصين والمهتمين في مجال العلاج بالقراءة، الذين استعرضوا تجاربهم وقدموا رؤاهم حول هذا الأسلوب العلاجي وأبرز تحدياته في العالم العربي.
قال فهد علي المعمري، رئيس جمعية الإمارات للمكتبات: «العلاج بالقراءة عربياً يشهد تنامياً ملحوظاً في التعاون بين المكتبات ومؤسسات الصحة النفسية، وذلك بهدف تعزيز مفهوم «الببليوثيرابيا» كممارسة رسمية»، وأشار إلى وجود مبادرات فعالة مثل الأنشطة القرائية الموجهة للأطفال في المكتبات العامة، وبرامج دعم الصحة النفسية في المدارس التي توظف القصة كأداة تربوية، إضافة إلى مشاركة دور النشر والمكتبات في الفعاليات الثقافية المتنوعة مثل «عام القراءة»، التي عززت الوعي بقيمة القراءة في بناء الذات. رغم ذلك يرى المعمري أن المجال لا يزال بحاجة إلى شراكات أعمق وأكثر انتظاماً بين المكتبات والصحة وهيئات الإرشاد النفسي والتعليم.
وحول تأثير العصر الرقمي، أوضح المعمري أن للكتاب الإلكتروني والتقنيات الحديثة أثراً مزدوجاً في العلاج بالقراءة، إذ سهلت المنصات الرقمية الوصول إلى مواد علاجية متنوعة في أي وقت، ووفرت محتوى تفاعلياً يمكن توجيهه لأغراض علاجية، غير أن القراءة الرقمية تفتقر أحياناً إلى التفاعل العاطفي العميق الذي يوفره الكتاب الورقي، كما أن بيئة القراءة الرقمية قد تؤدي إلى تشتت الانتباه والاستهلاك السريع للمحتوى، وهو ما يضعف من الأثر العلاجي العميق للقراءة التأملية.
وأضاف أن هناك تحديات تواجه هذا المجال عربياً، أبرزها ضعف الوعي المجتمعي بمفهوم العلاج بالقراءة، وقلة المتخصصين القادرين على الدمج بين المعرفة الأدبية والإرشاد النفسي، إلى جانب نقص البرامج المؤسسية والتدريبية المنتظمة، وسيطرة ثقافة التلقي السريع على حساب القراءة المتأنية، كما أشار إلى محدودية المحتوى العلاجي العربي، ما يستدعي تطوير نصوص علاجية باللغة العربية وترجمة الأعمال الأجنبية المتخصصة.
ويرى المعمري أن البيئة الثقافية العربية بيئة خصبة وثرية تدعم تطبيق العلاج بالقراءة، إضافة إلى ارتفاع الوعي المجتمعي بالصحة النفسية. ويؤكد أن تفعيل تطبيق العلاج بالقراءة يتطلب تدريب المكتبيين، وتطوير أدلة إرشادية، وتوفير محتوى أدبي موجه نفسياً باللغة العربية. كما شدد على الدور المحوري لأمين المكتبة كمرشد يوجه القراء نحو الكتب الملائمة لاحتياجاتهم النفسية، وينظم جلسات قرائية جماعية ويعد قوائم علاجية بالتعاون مع المختصين.
تطبيق عملي
بدورها أوضحت الدكتورة هالة الأبلم، الاستشارية في الصحة النفسية أن فعالية «الببليوثيرابيا»، العلاج بالقراءة، تعتمد على تنوع النصوص المستخدمة، حيث تشمل الأدب الروائي والقصصي الذي يتيح للقراء التعاطف مع شخصيات تمر بتجارب مشابهة، ما يعزز الشعور بالأمل ويحفّز التفكير الإبداعي. كما أكدت أهمية السير الذاتية وقصص التعافي التي تمنح القارئ نماذج واقعية للتغلب على الأزمات، إلى جانب الكتب التوجيهية والنفسية التي تقدم أدوات عملية وتمارين لتعزيز الصحة النفسية، والنصوص الشعرية والفنية التي تفتح المجال للتعبير عن المشاعر والتأمل العميق. وترى الدكتورة هالة أن التكامل بين هذه الأنواع يلبّي احتياجات الأفراد النفسية والسلوكية بشكل فعال.
وفي ما يتعلق بالتطبيق العملي، شددت الدكتورة هالة على ضرورة دمج العلاج بالقراءة في المدارس والمكتبات والمراكز الثقافية، من خلال تخصيص حصص للقراءة الذاتية في المناهج، وتدريب المعلمين والأخصائيين على إدارة نقاشات القراءة، إضافة إلى إطلاق أندية كتاب علاجية في المكتبات وتنظيم ورش «مطالعة واعية» في المراكز الثقافية بالتعاون مع مختصين نفسيين وأدباء. وأشارت إلى أن هذه الجهود المشتركة تتيح تحويل القراءة إلى وسيلة علاجية جماعية وفردية تعزز الصحة النفسية وتساعد الأفراد على الخروج من دائرة القلق والعزلة.
أما عن مستقبل العلاج بالقراءة في العصر الرقمي، فترى الدكتورة هالة أن التحديات التقنية مثل تشتت الانتباه وضعف التفاعل العميق مع النصوص قد تؤثر سلباً، إلا أن الفرص التقنية كبيرة، بفضل الكتب الإلكترونية والتطبيقات التفاعلية والبودكاست والكتب الصوتية التي توسع دائرة المستفيدين، وتوصي بتبني استراتيجيات تطويرية مثل دمج عناصر الألعاب (gamification) وإنشاء مجتمعات افتراضية للقراء، مؤكدة أن الابتكار الرقمي يمكن أن يعيد تشكيل العلاج بالقراءة ويوسع نطاقه ليشمل شرائح أوسع من المجتمع، شرط الحفاظ على مبادئ «الببليوثيرابيا» التقليدية.
فعل إنساني
وفي السياق ذاته، ترى الناقدة الدكتورة مريم الهاشمي، أن العلاج بالقراءة يمثل غذاء ودواء للروح والعقل، مستندة إلى أهمية القراءة كما وردت في القرآن الكريم، حيث اعتبرها وسيلة للشفاء والهداية، وتوضح أن مفهوم العلاج بالقراءة تطور في العصر الحديث، وأُدرج كمصطلح علمي منذ ستينيات القرن الماضي، ما دفع العيادات والمستشفيات النفسية إلى إنشاء مكتبات متخصصة ضمن برامجها العلاجية، وتؤكد أن للعلاج بالقراءة أسساً نفسية وتربوية واجتماعية وأخلاقية وفلسفية، ويتم اختيار نوع المادة القرائية وفق حالة الفرد واحتياجاته، ما يسهم في تنمية الإدراك وتغيير السلوك والدوافع، إضافة إلى تمكين الفرد من التفكير في مشكلاته والوصول إلى حلول فعالة.
وتعتبر مريم الهاشمي أن القراءة فعل إنساني شامل، لا يقتصر على من يعانون اضطرابات نفسية، بل يشمل كل من يواجه تحديات الحياة اليومية، إذ تساعد القراءة على الانتقال من حال إلى حال أفضل في مختلف مجالات الحياة. وتنصح، في السياق العلاجي، بالتركيز على قراءة القرآن الكريم، والكتب الأدبية، وكتب الخيال العلمي، والتنمية البشرية، والسير الذاتية، لما لها من أثر في دعم الصحة النفسية وتوسيع آفاق التفكير.
وتلفت إلى أن القراءة تسهم في تنمية السلوك الاجتماعي الإيجابي، وتعزز الثقة بالنفس وروح التعاون والمشاركة المجتمعية، إذ تُعد سلوكاً راقياً يبعد الفرد عن الأنشطة السلبية ويهذب النفس.
وتشير إلى أن آليات العلاج بالقراءة تتنوع بين العلاج الفردي والجماعي، حيث تتيح مناقشة النصوص وتبادل الأفكار ضمن إطار منهجي يسهل التغلب على الاضطرابات، وتخلص إلى أن القراءة مهارة مكتسبة يمكن تطويرها بالممارسة، وتعد وسيلة فعالة للدعم النفسي والعاطفي في مواجهة تحديات الحياة.
خبرات وتجارب
من جهته يؤمن الدكتور عمر العامري، المستشار في المهارات الناعمة السلوكية، بفاعلية العلاج بالقراءة في تحسين الصحة النفسية وتعديل السلوك، مستنداً إلى خبرته الشخصية وتجربته مع العديد من الحالات في مجال الاستشارات والدورات التدريبية، ويوضح أن القراءة تتجاوز كونها وسيلة للترفيه أو التعلم، لتصبح أداة علاجية تلامس الجوانب النفسية والعاطفية، حيث تمنح القارئ شعوراً بالدعم وتخفف من التوتر والقلق، خاصة عند قراءة نصوص تعكس تجارب مشابهة لما يمر به الفرد، كما يرى العامري أن القراءة توسع وعي الإنسان بنفسه وبالآخرين، وتطور مهاراته في فهم المشاعر وإدارتها، وتفتح له آفاقاً جديدة في التفكير والتعامل مع المشكلات.
ويشدد العامري على أهمية اختيار نوعية الكتب بحسب حالة القارئ واحتياجاته، ويوصي بمجموعة متنوعة تشمل كتب تطوير الذات والتنمية البشرية، والروايات والقصص التي تتناول تحولات إنسانية إيجابية، والكتب الدينية أو الروحانية لمن لديهم ميل لهذا النوع، إضافة إلى الكتب العلمية المبسطة في علم النفس والنصوص التحفيزية. ويؤكد أن نجاح برامج العلاج بالقراءة يتطلب تقييماً دقيقاً للحالة، وتحديد أهداف واضحة، واختيار المواد القرائية المناسبة، مع متابعة دورية وتقييم مستمر للتأثير، ويفضل دمج القراءة مع أساليب علاجية أخرى عند الحاجة.
ويرى العامري أن العصر الرقمي وفر أدوات جديدة مثل الكتب الإلكترونية والصوتية والتطبيقات المتخصصة التي تتيح مرونة أكبر وتخصيص المحتوى حسب الاحتياج، مع ضرورة الانتباه لتحديات التشتت الرقمي، ويستشهد بتجارب واقعية من عمله، حيث أسهمت القراءة الموجهة في تحسين حالات القلق، وتدني الثقة بالنفس، والاكتئاب الخفيف، مؤكداً أن القراءة مدخل عميق لتغيير السلوك وتجديد الإيمان بالذات.