
سامح الجارحي: التوترات الداخلية وانخراط قوى إقليمية فى تشكيل المستقبل ينسف وحدة الدولة السورية
هانى سليمان: الدور المصرى مرشح للتصاعد عبر القنوات الدبلوماسية والعمل العربى المشترك لمساعدة فى إعادة الإعمار
تتباين القراءات والتحليلات حول مستقبل سوريا بعد التحولات الأخيرة فى بنيتها السياسية والعسكرية، فى وقت تتعاظم فيه التعقيدات على الساحة الداخلية، وتتشابك خيوط الصراع بين اللاعبين المحليين والدوليين.
بينما تؤكد مصر ثبات موقفها القائم على دعم سيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها، تلوح فى الأفق مخاطر “الفيدرالية القسرية” والتقسيم الناعم.
يرى عدد من الخبراء أن ما يحدث من تمدد إسرائيلى فى الجنوب السوري، وتفكيك الجيش الوطنى لصالح الميليشيات، ما هو إلا مقدمة لإعادة تشكيل الخريطة السورية بتفاهمات إقليمية ودولية، فى ظل غياب رؤية موحدة وتوافق حول دور عربى فاعل كان من الممكن أن يجنب الشعب الدولة السورية الكثير من الأزمات والتحديات.
من ناحيته قال الدكتور سامح الجارحي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، إن المشهد السورى الراهن يمر بحالة غير مسبوقة من الضبابية والارتباك السياسى والعسكري، فى ظل تصاعد التوترات الداخلية وانخراط قوى إقليمية ودولية فاعلة فى تشكيل صورة مستقبلية قد تنسف وحدة الدولة السورية لصالح ترتيبات سياسية جديدة.
وأوضح الجارحى أن سوريا الآن تضم مجموعة واسعة من الفاعلين المسلحين، من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلى وحدات حماية الشعب الكردى فى الشمال، إلى الميليشيات الشيعية فى الساحل، إلى الدروز الذين يقود جناحهم الأكبر شيخ العقل حكمت الهجري، مشيرًا إلى أن هذا التداخل بين السلاح والهوية والانتماءات الطائفية يهدد بتفكك النسيج الوطنى السورى بالكامل.
ونوّه سامح الجارحى إلى أن سوريا لم تعد تحت سيطرة مركزية واحدة، وأن الرئيس المؤقت أحمد الشرع لا يملك السيطرة الكاملة على الأرض، حيث ينشغل بإعادة هيكلة الاقتصاد ورفع العقوبات الغربية، بينما تتوسع إسرائيل فى الجنوب السورى بحجة حماية الدروز، وتشن ضربات جوية وعمليات برية فى القنيطرة ومحيط الجولان، فى محاولة لفرض واقع جديد يخدم مشروع “إسرائيل الكبرى” أو “الشرق الأوسط الجديد”، بحسب تعبيره.
وأكد الجارحى أن إسرائيل استغلت انهيار نظام الأسد وضعف القيادة الجديدة فى دمشق، لتكريس نفوذها جنوبًا، مشيرًا إلى أن هناك تفاهمات استخباراتية جرت بالفعل بين مسؤولين إسرائيليين وشخصيات فى النظام السورى الجديد فى عواصم مثل باكو، برعاية أمريكية.
وأشار إلى أن الصراعات الحالية فى مناطق مثل السويداء والقنيطرة واللاذقية تعكس حالة التفكك، حيث تتنازع القوى المسلحة على السيطرة الميدانية، دون سلطة مركزية قادرة على فرض القانون.
وفى ما يخص مستقبل سوريا، قال الجارحى إن السيناريو الأقرب هو تحول سوريا إلى دولة فيدرالية، وليس تقسيمًا صارخًا على النموذج الليبى أو السوداني، مرجعًا ذلك إلى غياب الإجماع الوطنى حول النظام الجديد برئاسة أحمد الشرع، ورفض قطاعات واسعة من الشعب والمكونات الطائفية الاعتراف به.
وأوضح أن سوريا قد تدخل فى مرحلة “دستور فيدرالى انتقالي”، إذا ما توافق الفاعلون الإقليميون والدوليون -وعلى رأسهم تركيا، السعودية، مصر، قطر، الولايات المتحدة، روسيا، والصين– على وقف التصعيد وتثبيت خطوط النفوذ الجديدة.
وقال سامح الجارحى أن ما لم يحدث توافق دولى شامل، فإن سوريا ستبقى مرشحة للانزلاق نحو سيناريو أشبه بـ”اللا دولة”، حيث تتقاسم الميليشيات والمكونات المسلحة السيطرة، ويستمر غياب المؤسسات الشرعية والمركزية، مما يفتح المجال لصراع دموى طويل الأمد، بمباركة تفاهمات دولية غير معلنة.
وشدد الجارحى على خطورة المرحلة الحالية فى سوريا، مشيرًا إلى أن البلاد تعيش على حافة تفكك شامل، لا يمكن تجنبه إلا عبر تدخل عربى مسؤول ومدروس يعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية، وينهى حالة الاحتراب الطائفى والميليشياوي، مضيفا أن سوريا اليوم تقف على مفترق طرق، إما فيدرالية واقعية قد تحفظ ما تبقى من الدولة، أو انحدار نحو التفكك والتدويل الكامل للأزمة، ما سيترك آثارًا مدمرة ليس على سوريا وحدها، بل على المنطقة بأسرها، من لبنان إلى العراق إلى الخليج، وربما أبعد من ذلك.
وأكد الجارحى أن التحدى الحقيقى الآن ليس فقط فى التعامل مع إسرائيل أو إيران، بل فى إعادة بناء الدولة السورية ومؤسساتها، على أسس جديدة تضمن المواطنة وتكافؤ الفرص، وتُنهى الاعتماد على السلاح كوسيلة لإدارة الحكم والسيطرة.
من جانبه أكد الدكتور إكرام بدر الدين، أستاذ العلوم السياسية، أن المشهد السورى الحالى يتسم بدرجة عالية من الاضطراب والتعقيد، موضحًا أن الأزمة لم تعد محصورة فى الداخل السورى فقط، بل أصبحت مرتبطة بتشابكات إقليمية ودولية تتصدرها التدخلات الإسرائيلية، ومحاولات تغذية الانقسام الداخلى بين الفئات والطوائف المختلفة، فى مشهد ينذر بمخاطر جسيمة على سوريا والمنطقة العربية بأسرها.
وقال إن التدخل الإسرائيلى فى الداخل السورى تجاوز الذرائع التقليدية، حيث تدّعى إسرائيل أنها “تناصر” فئات معينة مثل طائفة الدروز، فى حين أن نواياها الحقيقية تتمحور حول ترسيخ واقع الاحتلال فى الجولان، وفرض شروط ميدانية فى مناطق معينة داخل سوريا بذريعة حماية أمنها القومي، لا سيما فى شمال إسرائيل.
وأشار بدر الدين إلى إن هذا الوضع لم ينشأ من فراغ، بل ساهمت فيه الصراعات الداخلية المتفاقمة بين مكونات المجتمع السوري، وخصوصًا بين طوائف متعددة، بما فيها الخلافات بين الدروز وبعض القبائل أو الجماعات الأخرى، معتبرًا أن هذه الصراعات باتت تُستغل كمدخل لتدخلات أجنبية تهدف فى جوهرها إلى تفكيك الدولة السورية وإضعافها.
وأضاف أن ما يجرى فى سوريا اليوم يتجاوز حدود الدولة، ويؤشر على ملامح أزمة إقليمية تهدد الأمن القومى العربى كله. سوريا ليست معزولة عن محيطها، والتداعيات السلبية للأزمة ستنعكس لا محالة على لبنان والعراق وفلسطين، فى ظل سعى إسرائيل لتعزيز موقعها الإقليمى على حساب الدول العربية.
وأوضح بدر الدين أن التحالف القائم بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية يدعم هذا المسار التصعيدي، مشيراً إلى أن هناك “مشروعًا قديمًا يتجدد اليوم لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط عبر إضعاف الدول الوطنية، وإغراقها فى حروب داخلية، وتغذية النزعات الطائفية والعرقية”، على حد قوله.
وفى معرض حديثه عن أداء النظام السورى فى مواجهة هذا الواقع، قال بدر الدين إن أحد أخطر مظاهر الأزمة فى سوريا اليوم هو الاعتماد المتزايد على الميليشيات المسلحة، مشيرًا إلى أن الدولة لم تعد تعتمد على الجيش النظامى وحده، بل باتت تعتمد على جماعات مسلحة خارجة عن سلطة الدولة المركزية، ومرتبطة فى كثير من الأحيان بطوائف أو قبائل أو جماعات بعينها، وهو ما يشكل “تهديدًا مباشرًا لمفهوم الدولة الوطنية”.
وتابع: إن الميليشيات المسلحة تقوّض هيبة الدولة، وتُضعف من سلطتها، وتُغرى الأطراف الخارجية بالتدخل، سواء الإقليمى أو الدولي. الدولة الحقيقية لا تُبنى على الولاءات الطائفية أو الميليشياوية، وإنما على مؤسسات جامعة وجيش وطنى يتبع للدولة لا لطائفة أو جماعة.
وأضاف بدر الدين أن الوضع الحالى فى سوريا، حيث تتصارع ميليشيات وقبائل وتتخذ مواقف عدائية تجاه بعضها البعض كما هو الحال بين بعض القبائل العربية والدروز، يؤدى إلى تفاقم الانقسامات، وإضعاف المركزية السياسية، ويُمهّد الطريق أمام مشاريع التقسيم.
وخلص بدر الدين إلى التأكيد على أن استعادة سوريا لقوتها ومكانتها لن تتحقق إلا من خلال إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس المواطنة والعدالة، ورفض كل أشكال الإقصاء أو التمييز. مشددا على أن اللحظة الراهنة تتطلب موقفًا عربيًا موحدًا، يتجاوز الإدانات إلى بلورة استراتيجية مواجهة حقيقية، لوقف التدهور فى سوريا ومنع تفككها، مضيفًا: “ما يحدث فى سوريا ليس شأناً داخليًا فحسب، بل تهديد شامل للأمن العربى والمصير المشترك لدول المنطقة بأكملها”.
ولفت بدر الدين إن المطلوب الآن ليس فقط التضامن مع سوريا، بل دعم مشروع الدولة فيها، وتعزيز حضور الجيش النظامي، ونزع سلاح الميليشيات، وفتح المجال أمام إصلاحات حقيقية تضمن مشاركة جميع مكونات المجتمع السوري، باعتبار ذلك الضمانة الوحيدة للسلام والاستقرار، ليس فى سوريا فقط، بل فى المنطقة ككل.
فى السياق ذاته أكد الدكتور هانى سليمان، مدير المركز العربى للبحوث والدراسات، أن السياسة الخارجية المصرية تجاه سوريا لم تكن يوماً سياسة عابرة أو متغيرة تبعاً للظروف، بل تستند إلى مجموعة من المبادئ الراسخة والثوابت القومية التى حافظت عليها مصر منذ اندلاع الأزمة السورية، وتتمسك بها فى تعاملها مع جميع أطراف الملف السوري.
وأوضح سليمان أن أول هذه المبادئ هو التمسك الصارم بمبدأ عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول، وهو أحد أركان العقيدة السياسية المصرية فى التعامل مع الأزمات الإقليمية، وهو ما انعكس بوضوح فى الموقف المصرى من الأزمة السورية، حيث حرصت القاهرة دومًا على التأكيد أن الحل فى سوريا يجب أن يكون نابعًا من إرادة الشعب السورى نفسه، دون فرض أى وصاية خارجية أو تدخلات عسكرية أجنبية.
وأضاف سليمان أن مصر تعتبر سيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها مسألة لا تقبل المساومة أو التفاوض، مشيراً إلى أن القاهرة كانت من أوائل العواصم التى نددت بالانتهاكات الإسرائيلية المتكررة على الأراضى السورية، لا سيما فى المناطق الحدودية والمواقع العسكرية التى تستهدفها تل أبيب بزعم وجود ميليشيات أو عناصر معادية.
وقال سليمان: إن الموقف المصرى من هذه الاعتداءات واضح وثابت، فقد رفضت القاهرة مرارًا هذا السلوك الإسرائيلى واعتبرته انتهاكًا صريحًا لسيادة دولة عربية ذات سيادة، ومخالفة صارخة للقانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة”، مضيفاً أن مصر لا ترى فى هذه العمليات إلا تهديداً مباشراً لاستقرار سوريا وأمن شعبها، وانعكاسًا لتوسع سياسة الأمر الواقع التى تهدد الأمن الإقليمى بأكمله.
وبيّن سليمان أن القاهرة تنطلق فى دعمها لسوريا من منطلق دعم الدولة الوطنية ومؤسساتها، موضحاً أن مصر لا تتعامل مع التجاذبات السياسية أو الاستقطابات الطائفية والمذهبية التى شهدها الداخل السورى خلال سنوات الحرب، بل تُعلى من مبدأ الدولة الجامعة التى تمثل كافة المواطنين السوريين دون تمييز.
ولفت سليمان إلى أن مصر تقدم دعمها للدولة السورية وليس للأفراد أو الكيانات المنقسمة، وأنها طالما أكدت أن الجيش الوطنى السورى هو المؤسسة الأهم فى الحفاظ على تماسك الدولة وحماية سيادتها. وأضاف: “مصر تنأى بنفسها عن الرهانات قصيرة الأمد، وتسعى إلى بناء موقف استراتيجى يقوم على إعلاء قيمة المواطنة، ودعم المؤسسات الرسمية، وعلى رأسها الجيش، باعتباره الضامن الأساسى لوحدة البلاد واستعادة الاستقرار والأمن الداخلي”.
ولفت إلى أن مصر كانت من أوائل الدول التى حذرت من خطورة تفشى الميليشيات المسلحة، لا سيما تلك التى ترتبط بجماعات متطرفة أو تنظيمات إرهابية تنشط على الأراضى السورية، معتبراً أن هذه الظاهرة تمثل أكبر خطر على وحدة الدولة السورية وتماسك نسيجها المجتمعي.
وأكد سليمان أن القاهرة طالما نادت بضرورة احتكار الدولة للسلاح وفرض سيطرتها الكاملة على أراضيها، وأن وجود أى قوى مسلحة موازية أو خارجة عن السيطرة يكرّس لحالة الانقسام ويفتح المجال أمام التدخلات الخارجية، وهو ما ترفضه مصر بشكل قاطع.
وأشار سليمان إلى أن السياسة المصرية ستستمر فى هذا المسار المتوازن والداعم للاستقرار السوري، موضحًا أن القاهرة ستركز جهودها الدبلوماسية والسياسية فى المرحلة المقبلة على تعزيز التواصل مع مختلف القوى الإقليمية والدولية من أجل الدفع نحو حل سياسى شامل، يعيد لسوريا مكانتها ويحقق تطلعات شعبها فى الأمن والعدالة والكرامة.
وشدد سليمان على أن مصر كانت وستظل صوتًا عربيًا عاقلاً ومسؤولًا فى الملف السوري، تتحرك بدافع من رؤيتها القومية للمنطقة، وبحرصها على استعادة الدولة السورية لعافيتها ووحدتها، ورفضها لأى مساعٍ لتقسيم سوريا أو تفكيكها عبر أدوات طائفية أو ميليشياوية أو احتلال أجنبي.
وأشار إلى أن الدور المصرى مرشح للتصاعد خلال المرحلة المقبلة، سواء عبر القنوات الدبلوماسية أو من خلال العمل العربى المشترك، لمساعدة الدولة السورية فى إعادة الإعمار، وتحقيق المصالحة الوطنية، وقطع الطريق على المشاريع الإقليمية التى تسعى لتمزيق النسيج السورى من الداخل.