
يحتفي مهرجان جرش الأردني بالشعر والشعراء العرب منذ انطلاقه في ثمانينات القرن العشرين، لا بل أصبحت القراءة في المهرجان شكلاً من أشكال الامتياز الأدبي والإعلامي للشاعر الذي يقرأ في مدرّجات تاريخية آثارية رومانية تعج بالمئات من روّاد المهرجان، وأصبح جمهور الشعر ينافس جمهور المطربين النجوم من العرب والأردنيين حين يقرأ في المهرجان شاعر في قامة محمود درويش أو الجواهري أو سعيد عقل.. على سبيل المثال.
وفي حدود معرفتي بتاريخ المهرجان، الذي كان مهرجان جيلنا نحن شعراء الثمانينات، أن سعيد عقل لم يقرأ في المهرجان لأنه كان يطلب مقابلاً مالياً كبيراً على الرغم من أن الكثير من شعره لا يستحق كل هذا التطلّب المغرور من شاعر كان آنذاك يغرق في فساد التصريحات السياسية التي لا تليق بشاعر «مهنته» الفن وليس السياسة التي تخرّب الثقافة حين تستعملها أو توظفها لمتطلبات أيديولوجية ضيّقة.
أعود إلى الزمن الذهبي للمهرجان، ولن أنسى تلك الحافلة التي كانت تقل الشعراء من عمّان، وتتوجه بهم إلى جرش ليقرأوا شعرهم هناك بين أعمدة التاريخ، حتى يتماهى الشاعر مع المكان، وتصبح جرش في اللحظة الشعرية ذاكرة مستعادة من ماضيها العريق.
عرفنا في جرش أو من خلال جرش: يوسف الصايغ، حبيب الصايغ، ومحمد آدم، وشوقي بزيع، وسيف الرحبي، والمنصف المزغني، والمنصف الوهايبي، ونجوم الغانم، وعبدالله الصيخان، ومحمد الثبيتي، ومحمد جبر الحربي، وخديجة العمري، وممدوح عدوان، وعلي الجندي، وغيرهم من شعراء الخليج العربي، والمغرب العربي، واليمن، والسودان ضمن احتفالية عربية كبرى بديوان العرب الذي يصبح في لحظته الكرنفالية تلك ديوان جرش.
بعض الشعراء، أو الكثير ممن كانوا يقرأون في جرش من العرب، كنا نعرفهم مسبقاً من خلال قراءة مجموعاتهم وأعمالهم الشعرية التي كانت متوفرة بكل سهولة في المكتبات وأكشاك الكتب في العاصمة عمان، والبعض القليل عرفناهم في المهرجان، أكلنا معهم، وسهرنا، وضحكنا، وأمضينا بينهم في عمّان وفي جرش أياماً مفعمة بالصداقة الشعرية والشخصية.
عَمّان في الليل، وحين يعود هؤلاء الشعراء من جرش إلى فندق إقامتهم في العاصمة، تتحول إلى جرش ثانية يحييها هؤلاء الرائعون الذين يسهرون على قراءات شعرية متبادلة فيما بينهم إلى أن يتحوّل الليل نفسه في عمّان إلى قصيدة عربية مطوّلة.
الكثير من تلك الكوكبة الشعرية العربية غاب عن هذه الفانية، والبعض ما زال على قيد الحياة وقيد الشعر، وإذا كان الشعر قيداً، فما أسهل كسره وتحويله إلى حرية مكثفة في اللغة التي تتحول بدورها أحياناً إلى وطن في كل مكان وزمان.
[email protected]