ملحوظة: لا توجد شخصية حقيقية تحمل اسم حسين حسن علوان، وهي بالكامل من خيال الكاتب، التفاصيل كلها حقيقية، أما الاسم فمن تأليف الكاتب.
في قصة ليست خيالية على الإطلاق، قرر حسين حسن علوان أن يدخل إلى دائرة كرة القدم الفتية، شاب صغير نشأ وأحب اللعبة، وتربى على مائدة كبرائها، كرة القدم أعجوبة دافئة، تشبه أحاجي المعلّمين وحيل الحواة، العديد من الأحداث الكبرى أدّت إلى زيادة حبها في قلبه الصغير، ومع الوقت أصبح مدمنًا، حفظ أسماء اللاعبين المفضلين، وأسماء حبيباتهم وأطفالهم، أعمارهم، ومقاس أحذيتهم، حفظ أسمائهم الثلاثية، وأقسم في ليلة باردة الهوى والهوية أن يظل مخلصًا “للكيان” مهما طال الأمد.
ولكن لأن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، والإنسان بطبعه ملول ومجبول على الشعور بالاعتياد، بدأت هذه الأحاسيس تفر من عروقه بعد فترة، كل الأحداث أصبحت مكررة، وكل الأهازيج قيلت من قبل، وحين بدأ الشتاء العاطفي يلفّ علاقته باللعبة، وأصبحت الأسماء التي كان يحفظها كأناشيد مقدسة مجرد أرقام في جدول، اصطدم فجأةً بـ “لعبة الفانتازي” كمن وجد خريطة سرية لأرضٍ عرفها منذ الطفولة.
تلك الليلة، بينما كان ينتقي لاعبيه الوهميين بلهفةِ طفلٍ يبني قلعته الرملية الأولى، انكشفت له كرة القدم من زاوية لم يرها من قبل: لم تعد مجرد أهداف مبهرة أو أرقام قياسية، بل شبكة معقدة من التكتيكات والإحصائيات والاختيارات المحفوفة بالمخاطر، كل تمريرة حاسمة تحوّلت إلى معادلة، وكل تبديل إلى مغامرة.
فانتازي لم تُعدِه إلى اللعبة فحسب، بل علّمته لغة جديدة، لغة الأرقام، والاستراتيجيات التي تحمل روح المغامرة، والجماعة الافتراضية التي تتشارك هوسًا نقيًا بالتفاصيل، وكأنما كان ينظر طوال السنوات الماضية إلى لوحة فنية من مسافة شديدة القرب، فلما ابتعد خطوتين فقط، اكتملت الصورة بأبعادها الحقيقية، وعادت الروح إلى ذلك الحب القديم، أقوى مما توقّع، ولكنه، للأسف، كان حبًا قاسيًا وباردًا.
كمية الأدرينالين التي كانت تسري في عروقه بعد كل توقع صحيح، جعلته غير مهتمًا بجمال اللعبة نفسها، بقدر اهتمامه بعدد النقاط، فتحول الحب إلى هوس، والهوس إلى إدمان حقيقي للعبة أخرى خيالية.
حسنًا، هنا بالضبط يوجد مربط الفرس، فلطالما اعتبرت كرة القدم الخيالية أو (الفانتازي) في نظر الكثيرين “هوسًا بسيطًا وغبيًا”، ومع ذلك، فقد تجاوزت هذه الهواية التي تبدو من بعيد مجرد تسلية، لتصبح ظاهرة ثقافية واقتصادية عالمية، تستحوذ على اهتمام الملايين وتدر مليارات الدولارات سنويًا.
يكمن التناقض الجوهري هنا في أن الفانتازي، على الرغم من تصنيفه على نطاق واسع كلعبة تعتمد على المهارة وتختلف عن المقامرة التقليدية، إلا أن آلياتها النفسية تحمل تشابهات مذهلة مع الإدمان، وهنا يكمن التساؤل: كيف تحول حسين من محب إلى مدمن؟
قصة ناقصة
بدأت حكاية حسين مع فانتازي كشرارة بسيطة. دعاه أصدقاؤه للانضمام إلى دوري خاص بهم، دوري يجمعهم في منافسة ودية، لكنها سرعان ما تحولت إلى شغف يسيطر على أوقاتهم. في البداية، كانت اللعبة وسيلة رائعة للتواصل الاجتماعي. كانت تجمعه بأصدقائه لساعات طويلة، يتبادلون فيها التحليلات، ويخططون للاستراتيجيات، ويضحكون على القرارات الخاطئة. كانت المحادثات لا تتوقف، سواء في مجموعات الدردشة أو اللقاءات الأسبوعية التي خصصوها لمناقشة أداء فرقهم.
شعر حسين بانتماء قوي لهذه المجموعة، وبأن اللعبة قد عززت روابط الصداقة بينهم بشكل لم يكن يتوقعه، كانت تلك اللحظات التي يتبادلون فيها النكات حول لاعب أضاع فرصة سهلة، أو يهنئون بعضهم البعض على اختيار موفق، هي جوهر التجربة الاجتماعية الإيجابية التي قدمتها الفانتازي، ولم يقتصر التأثير الاجتماعي على دائرة الأصدقاء المقربين فقط.
فمن خلال المنتديات والمجموعات العامة، تعرف حسين على لاعبين آخرين من مختلف أنحاء العالم، يشاركونه نفس الشغف. تبادلوا الخبرات، وتعلموا من بعضهم البعض، وشكلوا مجتمعًا افتراضيًا يجمعهم حب اللعبة، شعر حسين بأن عالمه قد اتسع، وأن لديه الآن شبكة دعم ومنافسة تحفزه على التطور والتحسن. فتحت له الفانتازي أبوابًا جديدة للتفاعل البشري، وأثبتت له أن الألعاب يمكن أن تكون جسرًا لبناء علاقات حقيقية، حتى لو كانت بدايتها افتراضية.
مع مرور الوقت، أدرك حسين أن الفانتازي ليست مجرد لعبة حظ، بل تتطلب تفكيرًا عميقًا ومرونة عقلية. كان عليه أن يحلل الإحصائيات، ويتابع أخبار اللاعبين، ويتوقع أداءهم المستقبلي. كانت كل جولة بمثابة لغز معقد يتطلب منه استخدام مهارات التحليل والتفكير المنطقي. شعر دماغه بالنشاط، وبأن قدرته على اتخاذ القرارات تحت الضغط قد تحسنت بشكل ملحوظ.
كانت لحظات الترقب، عندما ينتظر نتائج المباريات ليرى كيف أثرت اختياراته على نقاط فريقه، تطلق في جسده جرعات من الدوبامين، شعور بالمتعة والإثارة يدفعه للاستمرار. كان هذا الشعور بالمتعة هو الوقود الذي يغذيه، يجعله يقضي ساعات طويلة في البحث والتحليل، ويستمتع بكل تفصيلة في اللعبة.
لكن هذا السحر لم يخلُ من جانب مظلم. فمع كل مرة، كان هناك خطر الإدمان يتسلل ببطء. بدأ حسين يجد نفسه يقضي وقتًا أطول وأطول في اللعبة، يتفقد النقاط والإحصائيات بشكل شبه قهري، أصبحت المتعة اللحظية هي المحرك الأساسي، وبدأ يشعر بالحاجة إلى جرعات أكبر من الإثارة للحصول على نفس الشعور بالرضا.
كانت هذه الدوامة تستهلك طاقته ووقته، وتجعله يخلط بين المتعة العابرة والسعادة الحقيقية التي تأتي من الإنجازات المستدامة والتفاعلات الإنسانية العميقة. بدأ يلاحظ أن تركيزه خارج اللعبة يتأثر، وأن أفكاره تتجه دائمًا نحو فريقه الافتراضي، حتى في أوقات العمل أو الدراسة، وفجأة تحولت اللعبة من محفز دخيل على حياته، إلى سيد يسيطر على قراراته ويوجهه نحو المزيد من الانغماس في عالم الفانتازي.
لم تكن الفانتازي مجرد لعبة فردية لحسين، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الكروية المحيطة به. فمن خلال اللعبة، أصبح أكثر دراية باللاعبين والفرق، وأكثر اهتمامًا بمتابعة المباريات الحقيقية.
كان يشاهد المباريات بعين مختلفة، يركز على أداء لاعبيه في الفانتازي، ويحتفل بكل هدف يسجلونه أو تمريرة حاسمة يقدمونها. كانت اللعبة قد عمقت ارتباطه بكرة القدم، وجعلته جزءًا من مجتمع عالمي يشاركه نفس الشغف، وكانت النقاشات حول التكتيكات والتشكيلات لا تقتصر على أصدقائه، بل امتدت لتشمل زملاء العمل وأفراد العائلة، مما خلق جسورًا جديدة للتواصل والاهتمام المشترك.
لكن هذا الاهتمام المتزايد باللعبة الحقيقية كان له وجه آخر، ففي بعض الأحيان، كان حسين يجد نفسه يفضل متابعة أداء لاعبيه في الفانتازي على الاستمتاع بالمباراة ككل، كانت النقاط والترتيبات تسيطر على تفكيره، مما يفقده متعة المشاهدة العفوية، كما أن الرغبة في كسب المال، التي كانت دافعًا ثانويًا في البداية، بدأت تتسلل إلى وعيه.
فمع وجود جوائز مالية في بعض الدوريات، أصبح الضغط النفسي أكبر، وتحولت اللعبة من مجرد هواية إلى مصدر محتمل للدخل، مما زاد من حدة التوتر والقلق المرتبط بالنتائج. كانت الفانتازي قد غيرت من طريقة تفاعله مع كرة القدم، وحولتها من مجرد متعة إلى تحدٍ مستمر، يمزج بين الشغف والضغط النفسي، ومع تصاعد المنافسة وزيادة الانغماس في اللعبة، بدأت التأثيرات السلبية تظهر بوضوح في حياته، أصبح القلق رفيقًا دائمًا له، خاصة في أوقات اختيار اللاعبين أو انتظار نتائج المباريات.
كان يشعر بالتوتر والإحباط عندما لا تسير الأمور كما يخطط، أو عندما يخسر نقاطًا بسبب أداء لاعبيه. تضاعف الاضطراب في حياته، وبدأ يعاني من مزاج منخفض، وشعور بالحزن والغضب والتعب. كانت اللعبة التي بدأت كمصدر للمتعة قد تحولت إلى عبء نفسي ثقيل، ولم تقتصر المشاكل على الجانب النفسي فقط. فمع قضاء ساعات طويلة أمام الشاشة، بدأ حسين في إهمال أنشطته الاجتماعية الأخرى.
قلّت لقاءاته مع الأصدقاء خارج إطار الفانتازي، وأصبح يفضل البقاء في المنزل لمتابعة اللعبة. شعر بنوع من العزلة الاجتماعية، خاصة عندما كانت الألعاب اليومية تتطلب منه التنافس مع أشخاص لا يعرفهم، مما يفقده الجانب الاجتماعي الحقيقي للعبة. كما أن الجلوس لفترات طويلة أثر على صحته الجسدية، حيث بدأ يشعر بالخمول والتعب، وزاد وزنه بشكل ملحوظ.
لقد سحبته الفانتازي إلى عالمها الخاص، وأبعدته عن الواقع، مما أثر سلبًا على صحته النفسية والجسدية وعلاقاته الاجتماعية. وفي النهاية، وجد أن حياته دمرت بالكامل، ما هي نهاية قصته؟ حسنًا، سنعرفها في نهاية التقرير، المهم هنا معرفة أن حسين مثله مثل الملايين في هذا العالم، فكيف بدأت قصتهم؟
تطور الظاهرة
رحلة كرة القدم الخيالية (أي الفانتازي) هي قصة تحول رقمي عميق، بدأت من جذورها التناظرية البدائية لتصل إلى هيمنتها الرقمية الحالية. في أوائل الستينيات، نشأت اللعبة كهواية متخصصة بين مجموعة صغيرة من عشاق كرة القدم، بمن فيهم بيل وينكنباخ، أحد ملاك فريق “اوكلاند رايدرز” الإنجليزي، في تلك الأيام، كانت اللعبة تتطلب جهدًا يدويًا مضنيًا وتتبعًا دقيقًا للإحصائيات، حتى دخل الإنترنت في المعادلة، حيث شهدت حقبة الإنترنت، وتحديدًا أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، تحولًا محوريًا.
وأدت المنصات الإلكترونية مثل Yahoo Sports و ESPN إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على اللعبة، مما جعل “الانضمام إلى دوري، واختيار اللاعبين، وتتبع أداء فريقك في الوقت الفعلي أسهل من أي وقت مضى”. أدت هذه القفزة التكنولوجية إلى تحويل الهواية المتخصصة إلى نشاط سائد، حيث ارتفع عدد اللاعبين من 15 مليونًا في عام 2003 إلى حوالي 60 مليونًا في الولايات المتحدة بحلول عام 2019.
لم يتوقف التطور عند الدوريات الموسمية فقط، فقد أدى ظهور منصات ألعاب الفانتازي اليومية (DFS) مثل DraftKings و FanDuel إلى تقديم بُعد جديد، حيث تقدم مسابقات يومية وأسبوعية. وقد أدى هذا الابتكار إلى تقصير حلقة التغذية الراجعة بشكل كبير، فإذا لم تعجبك تشكيلتك اليوم وخسرت، يمكنك البدء من جديد غدًا، وبسرعة، وقد أدت آلية الإشباع الفوري هذه، التي تتناقض بشكل صارخ مع الانتظار الطويل لنهاية الدوريات التقليدية، إلى تضخيم المشاركة بشكل كبير وجذب جمهور أوسع.
تلك الحالة لم تكن يومًا طبقة من التسهيلات لممارسة الهواية؛ بل هي تغيير جوهري في كيفية استهلاك المشجعين للرياضة، حيث تحولت الملاحظات التي يلقيها حسين وإخوانه أمام الشاشات إلى مشاركة نشطة، خاصة وأن الإشباع الفوري الذي توفره ألعاب الفانتازي اليومية يستغل نظام المكافأة في الدماغ وبالتالي يزيد من الانخراط ليس في الفانتازي فقط، ولكن في الرياضة نفسها، فلم يعد المشجع مجرد متفرج، بل مشارك نشط، ومالك افتراضي، مما يعمق من استجابته العاطفية، ويخلق نمط تشجيع أكثر كثافة.
هذا التحول هو نقطة تحول رئيسية في سردية الرياضات الخيالية، حيث ينتقل بها من هواية حميدة إلى شحنات عاطفية ضخمة وعنيفة، ولم يتوقف التطور عند هذا الحد: فقد أدى التكامل المستمر للإحصائيات، وتقارير الإصابات، والتحليلات المتخصصة، التي سهلتها أدوات التحليل المتقدمة مثل Fantasy Pros و Pro Football Focus، إلى جعل كرة القدم الخيالية “أكثر واقعية” بشكل متزايد.
حيث يحفز اللاعبين لمشاهدة “العديد من المباريات كل أسبوع” وتسجيل إحصائيات اللاعبين بدقة، والبقاء على اطلاع دائم بتحركات اللاعبين وأدائهم على أرض الملعب، هذا الانغماس العميق يخلق وهمًا قويًا بالتحكم، وهو تحيز معرفي موثق جيدًا وشائع في المقامرة، مما يجعل التجربة الافتراضية تبدو حقيقية ومؤثرة للغاية، حيث يسمح هذا الوهم للاعبين بالتقليل من شأن العشوائية المتأصلة في لعبة كثيرة العشوائية مثل كرة القدم، تتحكم الصدفة في الكثير من نتائجها، ما يعطي تأثيرًا أكبر على نفسية اللاعب.
تلك السردية القائمة على المهارة فقط، دون احتساب الصدفة، تعمل كدرع نفسي قوي، مما يمكن الأفراد من الانخراط في مسابقات عالية المخاطر دون تصنيف نشاطهم هذا على أنه “مقامرة” حقيقية، وهذا أيضًا يقلل من حواجزهم النفسية أمام المخاطرة والإدمان المحتمل، مما يجعل اللعبة الخيالية أكثر خبثًا.
ببساطة، عندما يفتح حسين تطبيق الفانتازي، ويبدأ في اختيار التشكيلة، يشعر في بأنه متحكم في كل شئ، ويشعر بأنه جزء من اللعبة الواقعية التي تلعب على أرض الملعب، ولأنه جزء من اللعبة الحقيقية، فهذا يعني أنه يعامل مثل أي لاعب حقيقي، واللاعبين الحقيقيين ليسوا مدمنين، هذا هو الخبث الذي نتحدث عنه.
المظلوم
ينجذب حسين للمشاركة في ألعاب الفانتازي بفعل دوافع داخلية وخارجية متشابكة، الدوافع الداخلية هي الأقوى وتشمل:
الرغبة في التحكم: إذ يشعر حسين أنه المدير الفني الحقيقي للفريق، وعليه أن يتحكم في الفريق يتخذ قرارات تكتيكية.
حب المنافسة: متعة الفوز على الأصدقاء وإثبات التفوق.
إظهار المعرفة: وإثبات الخبرة الكروية عبر تحليل الإحصائيات والأداء.
الإثارة: متعة تتبع الأخبار وتوقع النتائج. هذه العوامل تجعل اللعبة مُرضية بحد ذاتها، حتى دون مكافآت خارجية.
لكن هذا لا يعني أن المكافآت الخارجية غير مهمة، فالجوائز المالية في البطولات الكبيرة وحق التفاخر بالفوز يعززان الاندماج، لكن المفاجأة تكمن في دور العلاقات الاجتماعية أيضًا، حيث تحول الفانتازي المباريات إلى منافسات ودية بين الأصدقاء أو الزملاء، مما يجعل مشاهدة كرة القدم نشاطًا جماعيًا ممتعًا.
وتختلف طرق لعب الفانتازي حسب شخصية المشارك، ويمكن تقسيم اللاعبين إلى ثلاثة أنماط رئيسية:
اللاعب العادي الذي يشارك للتسلية والتفاعل مع أصدقائه دون استثمار كبير للوقت،
واللاعب المحترف الذي يستغرق ساعات في تحليل الإحصائيات ويعتقد أن الفوز يعتمد على مهارته.
أما النمط الثالث، وهو الأكثر انتشارًا، ما نحب تسميته بـ “الباحث عن الإثارة المنعزل”، الذي يلعب أساسًا للحصول على النشوة من التشويق، وغالبًا ما يهمل الجانب الاجتماعي.
هذا النمط الثالث هو الأكثر عرضة للإدمان، خاصة إذا اقترن نشاطه بالمراهنات المالية أو اعتقاده الخاطئ بأنه يسيطر على النتائج، ذلك السعي وراء الإثارة قد يطغى على المنطق، ويجعله يستثمر وقتًا ومشاعر أكثر مما ينبغي، معتقدًا أن الفوز في لعبة خيالية سيحقق له المتعة المفقودة في حياته الواقعية.
مثل صديقنا حسين، الذي تربى على أن كرة القدم هي الحياة، ليست صنوًا أو مرادفًا لها، بل هي الحياة ذاتها، وأن النادي هو الكيان الجامع، الفاتح لما أغلق، لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، ولا شئ سواه.
ولذلك عندما يجد فرصة للتحكم في الحياة، ومن ثم اعادة ترتيب أبجديات وتشكيلات الكيان على مقاسه المشدود، من الطبيعي أن تصبح تلك الفرصة هي كل حياته، صحيح أنها فرصة قائمة على المقامرة بشكل أساسي، ولكنه، للأسف الشديد، لا يعلم ذلك، لأنه لم يدرك بعد أن هناك حياة خارج كرة القدم.
جدول أنماط اللاعبين في ألعاب فانتازي
نوع اللاعب | الدوافع الأساسية | الخصائص الرئيسية |
اللاعب العادي | الترفيه، التواصل الاجتماعي، الهروب | – الالتزام المنخفض بالوقت- يرى اللعبة كترفيه خفيف- أقل اهتمامًا بالإحصائيات المعقدة |
اللاعب الماهر | المراقبة، الإثارة، التحكم، المنافسة، الكفاءة | – يستثمر وقتًا كبيرًا في البحث والتحليل- يعتقد أن النتيجة تعتمد على المهارة- يسعى لإظهار الخبرة والتفوق |
الباحث عن الإثارة الانعزالي | الإثارة، المال، الهروب | – يركز على التشويق والنشوة من اللعب- أقل اهتمامًا بالجوانب الاجتماعية- قد يكون أكثر عرضة للمخاطر المالية |
اللاعب الاجتماعي/المجتمعي | الانتماء للمجتمع، المنافسة الودية، التفاخر | – يلعب كجزء من مجموعة اجتماعية- يستمتع بالجانب التنافسي والفكاهي مع الأصدقاء- يرى اللعبة كحدث اجتماعي مشترك |
اللاعب المدفوع بالمال | المال، المكافآت الخارجية، التنافس | – يركز على المكاسب المالية- ينخرط في دوريات ذات رهانات عالية- أكثر عرضة لسلوكيات المقامرة |
لعبة الدماغ
دماغ أخونا في الله الحاج حسين لم تكن يومًا آلةً محايدةً أمام ألعاب الفانتازي، بل التعبير الأوقع أنها كانت ساحة اقتتال ناقلين عصبيين: “الدوبامين” سريع الاندفاع كالشرر، و”السيروتونين” الهادئ كالنهر، فحين تترقب نتيجة مباراةٍ في تطبيقك، أو تتخيل فوز فريقك الوهمي، يطلق دماغك أول إشارة للدوبامين، ما يبعث على الشعور بالرضا، أزمته أنه دائم البحث عن المزيد، فتتحول التحديثات الإحصائية إلى إبرٍ مبهجة، والخسائر إلى وعودٍ خادعة، هنا تكمن المفارقة القاتلة: حتى الهزيمة قد تُطلق دفعة دوبامينية تشبه الفوز، فتتحول إلى طعمٍ يجرّك لمطاردة خسائرك كمن يلاحق سرابًا في الصحراء.
وكما يشرح الدكتور روبرت لستيج، هذه المعركة هي صراع بين لذة عابرة وسعادة دائمة، بين الدوبامين المتعطش، والسيروتونين القانع بأقل القليل، هنا تصنع الفانتازي بآليتها، بالمكافآت المفاجئة، والتحديثات اللحظية، وصعود المراتب وهبوطها، مختبراً للدوبامين يُخلّ بتوازنَك الكيميائي، تصبح كمن يشرب ماء البحر، كلما ازددت عطشًا للمتعة، ستشرب، وكلما شربت، كلما جف حلقك وطلبت المزيد.
وبسبب هذا الشعور الدائم بالصراع الداخلي، غالبًا ما ينخرط اللاعبون في اتخاذ قرارات غير عقلانية بسبب التحيزات المعرفية، تحدثنا عنها من قبل، وهي أنماط تفكير مشوهة تؤدي بالأفراد إلى اتخاذ قرارات غير منطقية أثناء المقامرة مثل:
وهم التحكم: الاعتقاد بأنه يمكن للمرء التأثير على النتائج في ألعاب الحظ من خلال المهارة أو الاستراتيجية، حتى عندما تكون النتائج عشوائية.
مغالطة المقامر (مغالطة مونت كارلو): الاعتقاد الخاطئ بأن الأحداث الماضية تؤثر على الأحداث المستقبلية المستقلة. قد تؤدي سلسلة من الخسائر إلى اعتقاد اللاعب بأن الفوز “وشيك”، أو الاعتقاد الخاطئ بأن اللاعب الذي سجل هاتريك في المباراة الماضية، سيسجله المباراة القادمة.
تأثير الاقتراب من الفوز (Near-Miss Effect): على سبيل المثال، ظهور رمزين فائزين على آلة قمار، أو أن لاعب الفانتازي يفشل بفارق ضئيل في تحقيق إحصائية رئيسية، يخلق رد فعل شديدة عاطفيًا، مما يعزز الرغبة في مواصلة اللعب، بالنسبة للمقامرين، تُنشط النتائج القريبة من الفوز مناطق الدماغ المرتبطة بالفوز.
تحيز التأكيد: التركيز على تذكر الانتصارات أكثر من الخسائر، مما يعزز الاعتقاد بالنجاح المستقبلي. هذا التذكر الانتقائي يحافظ على دورة المقامرة مستمرة من البداية وحتى النهاية دون توقف.
تأثير العربة (Bandwagon Effect): التأثر بسلوك المقامرة للآخرين، مع افتراض أن لديهم معرفة أفضل. يمكن أن يؤدي هذا التأثير الاجتماعي إلى التطبيع مع هذا السلوك الإشكالي وتعزيزه.
وكل تلك التأثيرات، كما تعلم، لا تعمل اعتباطًا أو من قبيل الصدفة، وكل تلك الميزات التصميمية ليست مجرد تحسينات ممتعة بل هو تلاعب مقصود بالنفس البشرية وعلم الأعصاب، تلاعب مصمم بدقة لاستغلال نظام المكافأة في الدماغ واختطاف العمليات المعرفية، من قبل الشركات المالكة للألعاب، لزيادة المشاركة إلى أقصى حد، حيث يمثل هذا اختراقًا واضحًا لمسارات المكافأة الطبيعية في الدماغ، كما وصفه لستيج.
حيث تكشف الدراسات التي تستخدم التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) عن اختلافات كبيرة في نشاط الدماغ المتعلق بالاقتراب من الفوز بين المقامرين، بالنسبة للبعض، تنشط النتائج القريبة من الفوز بشكل فريد مناطق الدماغ المرتبطة بالفوز، على سبيل المثال، الجسم المخطط البطني، الدماغ الأوسط بالقرب من المادة السوداء، والمنطقة السقيفية البطنية المسؤولة نظام المكافآت، وبشكل مشابه للانتصارات الفعلية.
شير هذا إلى أن النتائج القريبة من الفوز قد تعزز إفراز الدوبامين في المقامرة المضطربة، مما يرسم أوجه تشابه مع إدمان المخدرات، على النقيض من ذلك، بالنسبة للبعض الآخر، تعالج النتائج القريبة من الفوز بشكل أشبه بنتائج الخسارة، حيث يؤكد هذا التمييز العصبي البيولوجي كيف يمكن لعناصر تصميم اللعبة أن تستهدف وتعزز بشكل خاص المسارات الإدمانية لدى الأفراد بشكل مختلف؟ معك كامل الحق، ولكن كل الأشكال تعرضهم للإدمان.
حيث يشجع هيكل اللعبة نفسه هذه التحيزات، والتي بدورها تدفع إلى مزيد من المشاركة والاستثمار في الوقت والمال، مما يؤدي إلى ترسيخ التحيزات بشكل أكبر، كما تجعل هذه الدورة من الصعب بشكل متزايد على اللاعبين تقييم فرصهم بموضوعية أو التعرف على السلوك الإشكالي، بعدما شوهت اللعبة فلاترهم الداخلية، وجعلتهم عبيدًا لجرعة من الدوبامين.
فانتازي الدوري الإنجليزي 2025/2026.. 8 تعديلات تقلب موازين اللعبة
عن طريق دفعهم للبحث عن الهروب أو التخدير أو النشوة الاصطناعية من خلال اللعبة نفسها، وبالتالي فقدان التحكم في العالم الحقيقي، وهو تأثير أشبه بتأثير المخدرات، نعم كما سمعت، بل وربما أشد وأخطر أنواع المخدرات مثل الكوكايين، هل هذا يعني أن حسين يتعاطى الكوكايين؟ ليس بالضبط، ولكنه قريب جدًا من التأثر بنتائجه إن لم يقلل الجرعة، ويتعافى.
وبالإضافة إلى العلامات الواضحة للإدمان، يمكن أن تؤثر كرة القدم الخيالية سلبًا على الصحة العقلية، خاصة بالنسبة للاعبين المنخرطين بشدة أو المستثمرين ماليًا، إذ تظهر الدراسات أن زيادة الانخراط، والمقارنات المتكررة للفريق، والمراقبة المستمرة للأداء ترتبط بمستويات أعلى من القلق والتوتر والمزاج السلبي.
حيث أبلغت نسبة كبيرة من اللاعبين (24.6حوالي % في إحدى الدراسات) عن “مزاج متوتر قليلًا” بسبب اللعبة، وارتفعت هذه النسبة إلى 44% لـ “المستخدمين الذين يقضون وقتًا طويلاً في اللعب أو البحث أو التفكير في اللعبة، وهو وضع سيؤدي في النهاية إلى تعطيل الحياة اليومية والعمل والحياة المنزلية والعلاقات الشخصية، خاصة وإن عدم القدرة على التحكم في نتائج اللاعبين في العالم الحقيقي، على الرغم من الاستثمار الشخصي المكثف، يمكن أن يكون مصدرًا رئيسيًا للإحباط والمشاعر السلبية.
إن السعي وراء المتعة والتحكم المتصور داخل “كرة القدم الخيالية” يمكن أن يؤدي إلى “إزاحة رقمية” للمتعة والسعادة، بمعنى أن المشاركة الافتراضية تقوض نشاط الصحة العقلية في العالم الحقيقي، والعلاقات الاجتماعية، وحتى القدرة على السعادة الحقيقية، فيصبح كل شئ مرتبطًا بالافتراض، والعالم الرقمي، وهنا يقدم عمل الدكتور روبرت لستيج أيضًا تمييزًا فلسفيًا وكيميائيًا عصبيًا عميقًا بين المتعة والسعادة.
فالمتعة، قصيرة الأمد، حسية، وغالبًا ما تُختبر بمفردها، ويمكن تحقيقها بالمواد والسلوكيات، المدفوعة بالدوبامين والرغبة في المزيد، حيث تتوافق كرة القدم الخيالية، بإشباعها الفوري، واندفاعات الدوبامين من الانتصارات والاقتراب من الفوز، والرغبة المستمرة في أداء أفضل، تمامًا مع السعي وراء المتعة.
أما السعادة، فطويلة الأمد، أثيرية، تُختبر غالبًا في مجموعات اجتماعية ذات معنى حقيقي وواقعي، ولا يمكن تحقيقها بالمواد والسلوكيات الفورية، تدفع بالسيروتونين، أي الشعور بالرضا، وعدم الحاجة إلى المزيد، ولذلك يمكن أن يؤدي السعي المستمر وراء المتعة المدفوعة بالدوبامين إلى خفض تنظيم السيروتونين كيميائيًا، وبالتالي تدمير قدرتنا على الشعور بالسعادة كيميائيًا، نشعر بالمتعة المؤقتة، ولا نشعر بالسعادة، حتى تُحرق مستقبلاتنا العصبية تمامًا، فلا نصبح قادرين على التفرقة بين المتعة والسعادة، هنا قد يقول قائل: إذن ما الحل؟
تتمة القصة الناقصة
في إحدى الليالي، وبعد جولة مخيبة للآمال في الفانتازي، جلس حسين يفكر في حياته، أدرك أن اللعبة التي أحبها قد بدأت تسيطر عليه، وتؤثر سلبًا على جوانب مهمة في حياته، تذكر كلمات صديقه القديم: “الفانتازي يجب أن تكون 5 إلى 10% من وقت فراغك، لا أن تسيطر على حياتك.”، ولذلك قرر أن يغير من طريقة تعامله مع اللعبة.
بدأ في تقليل الوقت الذي يقضيه في التحليل والمتابعة، ويخصص وقتًا أكبر للأنشطة الأخرى التي كان يستمتع بها سابقًا، مثل ممارسة الرياضة، وقراءة الكتب، وقضاء الوقت مع عائلته وأصدقائه خارج إطار اللعبة، لم يتوقف عن لعب الفانتازي تمامًا، لكنه تعلم كيف يضع حدودًا.
أصبح يستمتع باللعبة كنشاط ترفيهي، دون أن يسمح لها بالسيطرة على حياته. تعلم أن السعادة الحقيقية لا تأتي من جرعات الدوبامين اللحظية، بل من التوازن بين المتعة والمسؤولية، بين العالم الافتراضي والواقع الحقيقي، وكانت الفانتازي قد علمته درسًا قيمًا: أن أي شيء، مهما كان ممتعًا، يمكن أن يتحول إلى عبء تحت مظلة الرأسمالية، إذا لم نتعامل معه بحكمة وتوازن.