تاريخ فائض للخزانة الأمريكية | محمد الصياد

تاريخ فائض للخزانة الأمريكية | محمد الصياد


د. محمد الصياد*

بصورة مفاجئة، سجلت الخزانة الأمريكية في شهر إبريل/ نيسان 2025، فائضاً بلغ 258 مليار دولار، هو ثاني أكبر فائض شهري في تاريخ الولايات المتحدة، بعد فائض إبريل 2022 البالغ 308.2 مليار دولار. فقد جمعت الحكومة الأمريكية 850.2 مليار دولار من الإيرادات، بينما أنفقت 591.8 مليار دولار، ما أحدث فائضاً شهرياً في الميزانية قدره 258.4 مليار دولار.
واحتفت وسائل الإعلام الأمريكية بهذا الحدث الاستثنائي، واعتبرته دليلاً على عودة الولايات المتحدة إلى المسار الصحيح. فعلاً، يبدو الأمر رائعاً، إنما قبل التدقيق في حيثياته، فالأمر يتعلق بموسم ضرائب، مضافاً إليه تضخم في عدد الموظفين، نتيجة فتح الحدود، أي دفعة مؤقتة مبنية على التزامات طويلة الأجل، فارتفاع إيرادات التأمين الاجتماعي، لم يكن بسبب الإنتاجية، بل بسبب زيادة عدد العمال الذين يتقاضى معظمهم أجورًا منخفضة، ويقدمون نموذج W-2، بعد عبور الحدود، أو الحصول على وضع قانوني. ونموذج W-2 عبارة عن بيان الأجور والضرائب تستخدمه دائرة الإيرادات الداخلية في أمريكا، للإبلاغ عن الأجور المدفوعة للموظفين والضرائب المقتطعة منهم.
ويتوجب على أصحاب العمل تعبئة النموذج لكل موظف يدفعون له راتباً أو أجراً، أو أي تعويض آخر كجزء من علاقة العمل، وإرساله إلى الموظفين في أو قبل 31 يناير/ كانون الثاني من أي عام كانت فيه علاقة العمل قائمة.
يمنح هذا الموعد النهائي دافعي الضرائب هؤلاء شهرين تقريباً لإعداد إقراراتهم الضريبية، قبل تاريخ استحقاق ضريبة الدخل في 15 إبريل. ويُستخدم النموذج أيضاً لإبلاغ إدارة الضمان الاجتماعي عن ضرائب قانون مساهمات التأمين الفيدرالية (Federal Insurance Contributions Act – FICA)، وهي ضريبة رواتب اتحادية أمريكية تُخصم من كل راتب، فكل صاحب عمل مطالَب بتقديم نموذج W-2 مع النموذج W-3 إلى إدارة الضمان الاجتماعي، بحلول نهاية فبراير/ شباط التالي للعمل في العام السابق، لتتولى إدارة الضمان الاجتماعي بدورها إبلاغ دائرة الإيرادات الداخلية بالمبالغ ذات الصلة في نموذج W-2.
والحال، أن أولئك الذين أسهموا في زيادة إيرادات الخزينة، ليسوا مهندسين أو رواد أعمال، وكل دولار يدفعونه كضريبة على الرواتب اليوم يتضاءل، مقارنةً بالتزامات الرعاية الطبية والضمان الاجتماعي المستقبلية التي يترتب عليها. ما يبدو فائضاً هو في الواقع عجز مُحمّل مسبقاً. زيادة عدد الموظفين تعني المزيد من الاستحقاقات المستقبلية. تجني وزارة الخزانة مكاسب قصيرة الأجل، بينما تُراكم بهدوء تكاليف طويلة الأجل، وإذ يشير الفائض إلى وجود ما بين 15 و25 مليون مُقدّم إقرارات جديد أو مُعاد تفعيله، فإن معظم هؤلاء هم من ذوي الأجور المنخفضة، فأين النمو الحقيقي؟ هو أقرب إلى «مضخة» سكانية جديدة صادمة، تُصيب النظام الضريبي بتشوهاتها المضللة، وسيولة نقدية قصيرة الأجل، وكلفة طويلة الأجل.
الرسوم الجمركية التي تضاعفت، صارت أيضاً، تُدرّ المزيد من السيولة النقدية الآنيّة والملحّة للخزينة الأمريكية، فقد بلغت إيرادات الرسوم الجمركية، بعد رفعها من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، 15.6 مليار دولار، في إبريل 2025، أي أكثر من ضعف إيرادات نفس الشهر من العام الماضي، والتي بلغت 6.3 مليار دولار. ومع ذلك، لا تزال إيرادات الرسوم الجمركية متواضعة مقارنةً بالمساهمات الرئيسية الأخرى.
سياسات الرئيس ترامب التجارية التي ضاعفت إيرادات الخزينة من هذه الرسوم، لها هي الأخرى استحقاقاتها التي ستظهر في المدى المتوسط، فالحمائية سلاح ذو حدين يمكن معاينة حده الآخر في مؤشرات قياسية للاقتصاد الكلي، مثل التضخم والبطالة ومعدل نمو إجمالي الناتج المحلي. فضلاً عن أن فوائض إبريل، هي فوائض موسمية، تحدث كل عام أثناء تقديم الإقرارات الضريبية. ثم إن الخلط غير وارد بين ارتفاع موسم الضرائب والصحة المالية.
الولايات المتحدة لا تمسك دفاترها (Book-keeping) بشكل صحيح ولا تصلحها، بل تزيد مسرعات اختلالها، من خلال زيادة قاعدة المُعالين المُستقبليين، مُتظاهرةً بأنها مصدر دخل ونقطة على السطر، من دون الإتيان على أكلافها (أكلاف العمالة المجندة – شرعياً وغير شرعي – في سوق العمل، الذي بات قائماً ومعتمداً على العمل الرخيص (Cheap labor)، كما هو حال الدول التي استمرأت هذا العمل المتوفر بوفرة في أسواق الندرة اللاتينية والآسيوية، ووضعت نموذجها الاقتصادي رهينة لهذه العمالة. وهذا هو السائد على أي حال، فهذه الدول إذ تستعرض فقط جانب الإيرادات والمنافع التي تجلبها هذه العمالة الرخيصة المستوردة، تنحو غالباً نحو عدم مقاربة القيمة المطلقة، لما تسهم به هذه العمالة في زيادة كلفة عملية إنتاج إجمالي الناتج المحلي.
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية
[email protected]



تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *