اعتادت بعض الدول الحديث عن ضرورة الانتقال إلى نظام عالمي جديد في ظل المتغيرات التي أنتجت معادلات جديدة لابد من أخذها في الاعتبار، وعلى رأس هذه الدول الصين وروسيا، حيث ينعكس ذلك في خطاب قيادتيهما السياسي المنفرد أو الثنائي أو حتى في الأطر متعددة الأطراف.
هذا الخطاب من الواضح أنه موجه بالأساس إلى الطرف المهيمن على النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة، وهو الولايات المتحدة، وفي تلك اللحظة الفارقة بالغ بعضهم في وصف ما حدث متحدثاً عن «نهاية التاريخ» و«الانتصار النهائي للرأسمالية» على حد وصف فرانسيس فوكوياما. وفيما بعد بدأت الحوادث تتسلسل باتجاه مخالف لتلك القناعات، إذ إنه ومع استمرار تربع الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، إلا أن هذه القمة لم تعد مستقرة، خاصة من الناحية الاقتصادية، حيث ازداد بروز القوة الاقتصادية الصينية.
هذا الزحف الاقتصادي الصيني ظهر في مشاريع عالمية، مثل الحزام والطريق، واستثمارات واسعة في الخارج، وسعي متواصل لإنشاء مؤسسات مالية بعيداً عن تلك التي تخضع للهيمنة الأمريكية والأوروبية، وكان على رأس تلك المؤسسات البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، كما تم إنشاء البنك الجديد في إطار مجموعة البريكس، وهنا يبرز مسعى صيني آخر تمثل في المساهمة بإنشاء منتديات وتجمعات ومنظمات بعيدة عن السيطرة الغربية أيضاً، ومن بينها منظمة شنغهاي للتعاون.
هذا التقدم الصيني جعل واشنطن تدرجها منذ سنوات على قائمة ليس فقط مصادر تهديد أمنها القومي رفقة روسيا، ودول أخرى مثل كوريا الشمالية وإيران، وإنما خصتها أيضاً بتهديد ما أسمته إدارة جو بايدن بالنظام الدولي القائم على القواعد بحكم ما تمتلكه من إمكانات سياسية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية.
كانت الصين وروسيا تجادلان بأن هناك غموضاً في ذلك الوصف الأمريكي للنظام الدولي، متسائلة عن ماهية هذه القواعد، معتبرة أن قواعد النظام الدولي التي يجب الالتزام بها هي القانون الدولي وفي القلب منه ميثاق الأمم المتحدة، موجهتين لواشنطن ومن يسير في ركابها تهمة الإطاحة بتلك القواعد في حال لم تتوافق مع مصالحها.
لا يقتصر أمر التنازع بخصوص النظام الدولي وطبيعته على ما يدور بين الدول، وإنما هناك جدل محتدم في الدوائر الأكاديمية أيضاً، حيث إن هناك من يذهب إلى أن زمن القطب الواحد قد ولى بالفعل، وفي المقابل هناك من يفند ذلك تماماً، وثمة فريق ثالث يقف في المنتصف، معتبراً أن هناك ما يشير إلى ضعف الهيمنة الأمريكية عما كانت عليه منذ سنوات، لكنها ما زالت قائمة، كما أن القوى الأخرى لم تصل بعد إلى مستوى قوة الولايات المتحدة بمعايير القوة الشاملة.
وقد برز هذا الجدل واضحاً خلال الحرب الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة، حيث بادر فريق إلى القول بأن سلوك واشنطن وبكين وموسكو قد أبان، بما لا يدع مجالاً للشك، أن المبادرة ما زالت في يد الأولى، بينما توارت كل من بكين وموسكو على الصعيد العملي.
بعيداً عن هذا الجدل، هناك حاجة ماسة إلى إعادة الاحترام للقانون الدولي وإلى التخلي عن استخدام القوة أو التهديد بها، مع الالتفات إلى الأولويات الحقيقة التي تحتاج إليها البشرية.