جمعت هواية الغناء بين الملك فاروق ، والرئيس عبد الناصر الذى ألغى الملكية وأقام الجمهورية ، وهي مفارقة إنسانية لا علاقة لها بالسياسة ومآسيها ..
أما الملك فاروق كما يكشف مستشاره الصحفي كريم ثابت في مذكراته ، فقد كانت الموسيقي الإفرنجية ” الخفيفة ” ، أو موسيقي الملاهي والمراقص ، هي وحدها التي تلذ له سواء في الراديو أو في الأماكن العامة ، وكان إذا جلس في مكان عام وعزفت الموسيقي بعض الألحان ” الكلاسيك ” الإفرنجية التي تعزف في ساعات الأكل عادة ، نادي كبير الخدم وقال له : هل تريد منا الموسيقي أن ننام ؟ .. فلا تكاد الرسالة ” الملكية ” تبلغ رئيس ” الأوركسترا ” حتي يستبدلها فورا بألحان مرحة صاخبة !
وقد تعلم فاروق البيانو في حداثته ، ولكن يظهر أنه تعلمه ” تسديد خانة ” في مناهج دراسته .. لا أكثر ، أما الموسيقي العربية والغناء العربي فقد كان لا يميل إليها ولا يعني بسماعهما . ولم يكن يحب سوى بعض الطقاطيق العربية ، إما على سبيل التسلية ، أو لأنها كانت تحتوي علي تحية له في الحفلات التي كان يشهدها ، ولما ذهب مرة إلي النادي الأهلي ليسمع أم كلثوم في حفلة من حفلاتها ذهب إليها في الحقيقة لمأرب سياسي – كما يشهد كريم ثابت – لزيادة شعبيته ، وليس لسماع كبيرة مطربات الشرق ..
فقد كانت وزارة الوفد متربعة يومئذ في دست الحكم ، وقد ذهبت في مناوئتها لفاروق إلي منع إذاعة القرآن الكريم في قصر عابدين في أثناء شهر رمضان ، ففكر أحمد حسنين – رئيس الديوان الملكي – مع بعض أصدقائه في مناورة يغيظون بها الوزارة ، وهي أن يذهب الملك فاروق إلي النادي الأهلي ، بينما أم كلثوم تغني والإذاعة ” مفتوحة ” علي الهواء فيردد الراديو صدي أصوات التصفيق والهتافات ألتي سيقابل بها ويسمعها الناس في كل مكان .
وحدث فعلا .. وفي تلك الليلة أنعم فاروق علي أم كلثوم بنيشان الكمال من الطبقة الثالثة !
وبعد أربع سنوات من تلك الواقعة ، وقع نظر فاروق في إحدى المجلات على صورة لأم كلثوم وهي جالسة في فندق ” سان استيفانو ” إلي مائدة واحدة مع السيدة زينب الوكيل ، فغضب لمجالستها حرم مصطفي النحاس باشا عدوه السياسي في ذلك الحين .
وجلب الملك بواسطة بوليسه الخاص الصورة الفوتغرافية الأصلية المنشورة في المجلة ، وأرسلها إلي مستشاره الصحفي ليطلع عليها ويعاتب أم كلثوم علي ذلك .. فلم يفعل ! وحاول أن يقنع الملك بأن أم كلثوم ليست موظفة في القصر ، فأبي أن يقتنع بهذا الرأي ، ولم يرض عن أم كلثوم بعد ذلك .
***
وكان فاروق يعتقد أن صوته جميل وأن له ” سحبة ” لا يدركها كثيرون ، وأنه يحسن الغناء – ويشهد مستشار الملك أن صوت الملك لم يكن جميلا ، ولم يكن له ” السحبة ” التي أراد أن تكون له ، ولم يكن يحسن الغناء ، بل لم يكن له أقل إلمام بأصول الغناء وقواعده .
قال ذات مرة لمستشاره الصحفي بعدما استمع إلي أنشودة كانت تذاع في الراديو :
هل تعرف يا كريم أنه لو لم أكن ملكا لأمكن أن أكون مغنيا !! ، فقال له مستشاره على الفور : لأ معلش يا مولانا خليك ملك أحسن !
ويبدو أن هواية الغناء كانت تتملك الملك فاروق إلي درجة أنه ذهب ذات مرة إلي نادي السيارات بالإسكندرية ، وغني أمام الميكروفون في قاعة الموسيقي ، في وقت لم يكن فيه أحد من الأعضاء والزوار ، وانتهز الفرصة وجرب صوته أمام الميكروفون ، ولم يسمعه أحد سوي الشخص الذى كان معه .
وبعد قيام الثورة وخلع فاروق ورحيله إلي منفاه بإيطاليا ، تعرف علي فتاته ” إرما كابيس ” مغنية الأوبرا التي أحبها – أحبها فقط دون شئ آخر ، حتي أنه يوم استضافها في شقته لم يفعل أكثر من تقبيلها في جبينها ولا شئ بعد ذلك باعترافها هي – مما يسقط الكثير من المزاعم التي لوثت سمعته بعد الثورة – وكان فاروق في بعض الأحيان يعزف علي البيانو وإرما تغني ، وعندما غنت إرما لكل من فردي وبوتشيني أمام جمهور كبير يتقدمه فاروق في الصف الأول وهو يقود صيحات الإعجاب بصوتها والدموع تملأ عينيه .
وبعد أن انتهت إرما من الغناء اندفع فاروق إلي خشبة المسرح ومعه إكليل من الزهور طوق به عنق السيدة الجميلة إرما التي كانت عيناها أيضا مليئة بالدموع .
****
أما الرئيس جمال عبد الناصر فقد كان يحب أم كلثوم بالفعل إلي درجة أنه كان يتغنى بأغانيها ، وقد كان ابنه خالد عبد الناصر شاهدا علي ذلك ، وقد روي لعبد الله السناوي بجريدة ” العربي ” الناصري ” أسرارا خاصة ” عن علاقة والده بكوكب الشرق ، فقال :
” في الصباح الباكر من كل يوم يدندن بأغنيات أم كلثوم وهو يحلق ذقنه . كنا نضحك من قلوبنا . أغنيات أم كلثوم كلها مفضلة لديه ، وبعدها أغنيات موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب .
بطلب من عبد الناصر التقت حنجرة أم كلثوم الذهبية بألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لأول مرة في أغنية ” انت عمري ” .
( ملحوظة لنا :
في اعترافات عبد الوهاب لسعد الدين وهبة أن المشير عبد الحكيم عامر كان هو الأكثر إلحاحا علي أم كلثوم وعبد الوهاب في أن يلتقيا في عمل فني ) .
يضيف خالد عبد الناصر للسناوي : أبي كان يحفظ اللحن من أول مرة والكلمات بمجرد أن تجري علي حنجرة ” ثومة ” في الخميس الأول من كل شهر . كان يستمع ” بمفرده ” لحفلة ” ثومة ” المذاعة علي الهواء مباشرة ، في الغالب أثناء قراءة التقارير الرسمية والصحف . وعندما لا تمكنه الظروف من سماع حفلة خميس ثومة يطلب الأشرطة من الإذاعة .
أما عادل حمودة فيذكر في تحقيقه ” وثائق عبد الناصر العائلية ” أنه قبل الثورة ” ذات صيف كانت تحية زوجة عبد الناصر تقضي أياما مع عائلتها في ” سبورتنج ” بالإسكندرية وأمام البحر الممتد إلي ما بعد الأفق ، اكتشفت تحية أن عبد الناصر يغني في ” الحمام ” ، وأن صوته لا يقل حلاوة عن صوت محمد عبد الوهاب ، فقالت لها شقيقتها الكبرى : يبدو أنه من شدة حبك له متصورة صوته زي عبد الوهاب . ولم تعلق .
وكان عبد الوهاب يغني ” من يوم ما خطر علي بالي جمال من يوم قلبي حبك ومال ” ، وكانت هي أيضا – تحية عبد الناصر – تغني تلك الكلمات وسط عائلتها .
وتؤكد تحية نفسها إعجابها بصوت زوجها جمال عبد الناصر في خطاب أرسلته إليه أثناء حرب فلسطين بتاريخ 25 يونيو 1948 تقول فيه :
” عزيزي جمال
أكتب إليك وصوتك ما زال في أذني بعد حرماني من سماعه أياما طويلة .. ما أسعدها تلك اللحظات التي كنت أسمعك فيها تغني ، أرجو أن تكررها ، وما عهدي بك إلا إسعادي .. تحية “.
ولأن تحية كانت تعشق الموسيقي فقد كانت أول هدية تتلقاها من عبد الناصر هي الجرامفون ، لقد جمعهما حب الموسيقي وأم كلثوم ، وكانا يترددان في الفترة الأولي من زواجهما علي محلات بيع الاسطوانات لاختيار ما يستمعان إليه في المساء .
وفي كتاب ” المرأة التي أحبها عبد الناصر ” لشفيق أحمد علي ، يذكر المستشار حسن النشار أقدم أصدقاء عبد الناصر أنه كان يجلس معه علي سطح منزل حسن ، وجمال يدندن بأغنية ” جفنه علم الغزل ” للموسيقار محمد عبد الوهاب ، بينما صديقهما الثالث ” يمزك ” له بفمه بين مقاطع الأغنية .
***
يبقى سؤال :
أليس الفن مرققا للقلب ، راقيا بالذوق ، مهدهدا للوجدان ؟
إذن لماذا لم يؤثر فن الغناء والموسيقي في الملك فاروق ، وكيف أنه كان حانقا علي رئيس وزرائه مصطفي النحاس باشا زعيم ” الوفد ” الذي كان يمثل حزب الأغلبية ، فكان يقيله ويأتي بزعماء أحزاب الأقلية إلي الحكم ، وفي المقابل كيف كان عبد الناصر لا يعلو صوت فوق صوته وصوت المعتقلات ، أم أن للسياسة حكمها بصرف النظر عن شخصية صاحبها ، يعني هذه نقرة وهذه نقرة كما يقول المثل ، أم أن هناك تفسيرا آخر ؟!