عبدالله السويجي
حين تقع حوادث غير طبيعية ولا يتصورها عقل، في الزمن القديم أو في زمننا الحاضر، كأن يقتل أحدهم أباه أو أمه أو كل عائلته بدم بارد، كأن يهاجم أحدهم مدرسة للأطفال ويبدأ بالقتل من دون رحمة، كأن يعتدي أحدهم على مصلين في كنيسة أو مسجد أو معبد، كان أقاربه يستخرجون له شهادة من مستشفى الطب النفسي أو الأمراض العقلية العصبية، تثبت عدم تمتعه بالقدرات العقلية (مجنون)، وبالتالي هو غير مسؤول عن تصرفاته، فيودع في المستشفى بدلاً من السجن، وبعد مرور سنوات تسقط عنه التهمة، والضحايا لهم الله.
طبعاً، يحدث فساد من نوع معيّن، يسهّل استصدار شهادة (الجنون)، وفساد في سلك القضاة يقنع القاضي بسهولة بأن المجرم مريض نفسي. هذا يحدث في الواقع وليس في أفلام السينما. بناء على ذلك، فإن مئات الآلاف من المجانين يتجولون بيننا من دون شهادات تثبت جنونهم، بل ويتحكمون بالبشر والحجر، ولهم زعماء وقيادات، بل لهم ممولون، فهل كل هؤلاء مجانين؟ ومن أين نأتي بمستشفيات تتسع لهؤلاء؟!
جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والمذابح والمجازر، تحدث كل يوم في الشرق الأوسط، وتحديداً في المنطقة العربية. طبعاً حصلت إبادة جماعية وتطهير عرقي ومذابح ومجازر في مناطق العالم الذي يسمونه اليوم بالعالم المتحضّر، أو المتقدّم، وربما كانت أبشع من المجازر الحالية، لكن هؤلاء توصّلوا إلى نتيجة أنه من غير الممكن تحقيق انتصار حاسم على فئة محدّدة أو مذهب أو دين محدّد، فلجؤوا إلى الحوار، وأبعدوا المذاهب والأديان عن السلطات التنفيذية، وتمكّنوا من تحقيق الأنظمة المدنية، مع الإبقاء على الملكية والطبقية وغيرها، باختصار توصّلوا إلى صيغة تمنح الجميع حرية العبادة واعتناق الأديان من دون تدخّل من أحد، شرط ألا يقوم طرف من الأطراف بفرض رأيه أو مذهبه أو دينه أو معتقده بالقوة على الآخرين، ومن يفعل ذلك، تُطبّق عليه عقوبات صارمة، ولم يعد العنف وسيلة لتوصيل الفكرة، بل هناك وسائل سلمية أخرى للتعبير عن الرأي.
في منطقتنا، لم يتعلّم أحد الدّرس، ولم يقتنع أحد بأهمية القبول بالآخر، لأنه ببساطة يعتقد بأنه مكلّف من الله بتصويب الآخرين وإجبارهم على الإيمان بما يؤمن. في منطقتنا، لا تزال الحروب الدينية مستمرة منذ قرابة 1400 سنة، تهدأ على مضض، ثم تنفجر بشكل أقوى، ولا يزال المحرّضون أحراراً طلقاء يمارسون التشجيع على القتل والسحل وقطع الرؤوس، بلا حسيب ولا رقيب، ولا يزال هؤلاء يزرعون في نفوس الأجيال أفكار الثأر، فتُرتكب المذابح ببرودة أعصاب، وحقد دفين. ترى من سيحاسب هؤلاء (المجانين) على أفعالهم، ومن سيقتص للضحايا؟
المشكلة الكبرى أن العالم يتفرّج كأنه يشاهد فيلماً وليس حقيقة، مذابح في كل مكان، واعتداءات في كل مكان، وممارسات توحي بأن مرتكبي المجازر يفعلون ذلك عن قناعة تامة، ومؤمنون بما يفعلون، وتُطلق عليهم تسميات وأوصاف عديدة تشبه أوصاف (المجانين)، ولكنهم يتمتعون بقواهم العقلية والعصبية، ويفتخرون بأفعالهم.
وأمام هذا المشهد، وحتى تحمي كل منطقة ذاتها، وكل فئة ناسها، فإنهم يشكلون تحالفات، وفي هذه الحالة يجوز (ولنتوقف عند كلمة يجوز) لهؤلاء الاستعانة بالشيطان لحماية أنفسهم. وهذا يعيدنا إلى الأسباب التي دمرت قرطبة، والتي أوجدت (ملوك الطوائف)، وكانت النتيجة سقوط الأندلس. صحيح أن البعض يقول إن الأندلس ليست للمسلمين، وقد عادت لأصحابها، لكننا هنا نتحدث في التاريخ وليس الأحقية والتنظير للوطن والدين، والحقيقة تقول إن ملوك الطوائف حين استنجدوا بأعدائهم خارت قواهم وذهبت ريحهم.
صحيح أن الجماعات المتقاتلة حالياً لم تشكل دولاً أو كيانات سياسية بعد، لكنها، كما أظن، تطمح لفعل ذلك، ولديها القابلية، وكما يقولون، حفاظاً على كرامتهم وكياناتهم وثقافاتهم وهذا يعني تجزئة المجزّأ وتقطيع المقطّع، ما يسهّل هزيمتهم وضم أراضيهم من قبل الأقوى، والمثل يقول ما هكذا تورد الإبل.
ترى ما الذي يجعل هؤلاء متعطّشين للدم والقتل والتمثيل بالضحايا، ما هي مرجعياتهم، وثقافاتهم، ومذاهبهم، ومعتقداتهم؟ أنا شخصياً لا أعتقد بوجود دين أو مذهب أو أي سبب آخر، يدفع هؤلاء لارتكاب المجازر، وليس هذا فقط، ولكن ممارسة امتهان لإنسانية الإنسان، أي سحق آدميته أمام أهله، وإذلال الرجل أمام زوجته، على سبيل المثال، والاعتداء على النساء والتعامل معهن بوحشية غير مسبوقة، لا في السبي ولا في الأسر ولا في الاتجار بالبشر، ربما هم يشبهون ما تعرّض له العبيد في سنوات خلت، حيث كان (الأسياد) يعاملون (العبيد) كأنهم ليسوا من فصيلة البشر،
إن ما يزيد الأمر خطورة، وجود ممولين وتجار أسلحة، وجهات استخباراتية تدرّب هؤلاء، وقد وصلنا إلى زمن، من دون أن ندري، يمكن وصفه بزمن الغزو، والعودة إلى زمن القبائل والعشائر، كأن داحس والغبراء قد اختفت من ذاكرة المؤرخين. والطامة الكبرى أن هذا يحدث بين الناطقين بلغة الضاد، فأي ثقافة وأي حضارة وأي قيم وأي أخلاق يؤمنون بها. ومتى سيعلمون أن الحوار أقصر الطرق للحصول على السلام، خاصة بين الأشقاء!!
[email protected]