
60 عاماً من الإبداع والتمرد والجنون «24»
غلاف له أعجب عبد الناصر فضاعف مصطفى أمين راتبه
رائد «التجريد» و«الكولاج» وأول من حوّل النفايات إلى لوحات
بحثت جاهدا ومخلصا عن مدخل مختلف ونظرة جديدة أدخل منه وأطل منها على سيرة وتجربة منير كنعان الرسام الاستثنائى، فلم أجد أصدق ولا أعمق من مدخل ونظرة رفيقة رحلته وحبيبته ومُخلدة سيرته أستاذتنا ســاحرة الـكتــابة الإنســـانـيــة سناء البيسى..
وبحثت جاهدا ومخلصا عن لقب يــلـيق بسيــرة وتجربة منير كنعان ويعبر عنهما ببلاغة، فلم أجد أصدق ولا أعمق من ذلك اللقب الذى صكه الشاعر المبدع أحمد الشهاوى.. الرائد الزاهد.
يمكنك أن تعثر على مداخل شتى ونظرات مختلفة وألقاب رنانة، لكنك غالبا ستصل مثلى إلى النتيجة ذاتها والقناعة نفسها..
(1)
يفى يوم السبت 2 يونيو عام 2001 كنت على موعد مع أول لقاء مباشر برسومات منير كنعان، حين أتيح لى وقتها بحكم عملى بجريدة “القاهرة” الصادرة عن وزارة الثقافة.. حضور معرضه الذى أقيم بعد 17 شهرا من رحيله، وتحول إلى مظاهرة حب فى وداعه وتأبينه وتقديره، ويمكننى أن أعتبره المعرض الأفخم والأضخم فى تاريخ معارض الفن التشكيلى، فقد ضم 410 لوحات توزعت على قاعات متحف الفن الحديث وقصر الفنون ( أكبر مكانى عرض تشكيلى فى مصر حينها) ، وشهد حشدا غير مسبوق من الزوار والتغطية الإعلامية، يكفى أن تلقى نظرة على سجل الزوار لتقرأ أسماء بحجم وقيمة ومكانة محمد حسنين هيكل وعمرو موسى وفاروق حسنى وإبراهيم نافع وآمال فهمى وأحمد فراج.. وزراء وسفراء وشخصيات عامة ومعهم مئات من نقاد الفن التشكيلى ومتذوقيه، وعشرات من الصحفيين وقنوات التليفزيون، كلهم توافدوا لحضور الحدث الكبير..
هذا المعرض الأفخم والأضخم احتاج إلى 6 شهور من التحضير، وإلى جهد فوق الطاقة تحمله بشكل خاص رفيق العمر سناء البيسى والابن الوحيد هشام كنعان، إذ كان عليهما جمع وتصنيف وتجهيز هذا العدد الضخم من لوحات الفنان التى رسمها على امتداد 60 عاما تمثل مسيرته الفنية، واعتبر النقاد هذا المعرض بمثابة رد اعتبار لهذا الفنان الرائد أعاد وضعه ” فى المكان اللائق به، ليس كمبدع ولا مبتكر بل كعبقرى من كبار فنانى الثورات الفنية”..
وقتها تابعت الزخم الشديد والأصداء الواسعة للمعرض، واحتفظت ببعض ما كتب عن بطله الغائب الحاضر، وبالطبع كانت الكلمة الاستثنائية التى كتبها الأستاذ هيكل كمقدمة للكتاب التذكارى بالغ الفخامة والضخامة الذى صدر بهذه المناسبة ووضعت فيه سناء البيسى كل موهبتها الصحفية والتشكيلية ليخرج بهذا الشكل الاستثنائى، نقول كانت تلك المقدمة حدثا فى ذاتها، فلم يسبق أن كتب هيكل مقدمة كتاب عن رسام، ولم يسبق أن كتب بكل هذا الحماس عن رسام:
“أعطانى منير كنعان الإحساس دائما بأنه رجل يقول لنفسه وللآخرين: ربما أن زمانى لم يجيء بعد، ومع ذلك فإننى أقبل دون تذمر منتظرا أن يجيء زمانى وسوف يجيء حتى ولو كان مجيئه فى لحظة لا أكون فيها وسط الناس” .
وبنفس الحماس وربما أشد كتب وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى:
“منير كنعان الرائد الذى بفنه خلق حوارا بين الأشياء تشير إلى فنان يحمل قلبا وروحا جسورا، مغامرا فى مضمار الفن أثرت فى أجيال عديدة بعده، وتركت بصمات لافتة على خريطة الفن التشكيلى فى مصر”..
وكتب فنانا عملاقا بقيمة بيكار:
“هذا هو كنعان الرائد.. فى كل مجال يطرحه وفى كل ميدان يرتاده، وصل إلى أغواره وهو قابع فى مرسمه يُستقبل بالرفض،.ولكن سيظل إلى مدى الأيام والسنين علامة من علامات التطوير والتنوير فى تاريخ الحركة الفنية المعاصرة فى مصر، وموقعا قياديا جديرا بأن يلقب بلقب الرائد”..
ويمكننى أن أسوق عشرات الأمثلة على تلك الشاكلة من الكلمات الطنانة الرنانة بتوقيع عمالقة من نقاد الفن التشكيلى وفنانيه يشيدون بعبقرية منير كنعان ودوره وتأثيره وما صنعت يداه، لكنك – رغم ذلك – ستظل واقفا فى مقام الحيرة، لا تعرف ولا تقف على سر هذا الفنان، إلى أن تجدها وتذهب بقدميك وطوع ارادتك إليها.. السيدة التى ستقودك إلى دنيا كنعان، لأنها العارفة بشفرة أسرارها وحارسة بوابتها ، حيث يختلط الفنى بالإنسانى، العام والخاص، وبقدرة فريدة على الشرح والتحليل والحكى، ستنتهى حتما بأن تشاركها هذا العشق.
(2)
يمكننى أن أبادر وأغامر وأحكى لك سيرة منير كنعان، وأقص عليك تفاصيل تجربته الفنية الثرية التى امتدت لستين سنة متصلة، منذ العام 1940 وحتى رحيله فى 29 من ديسمبر 1999، تسبقها سنوات طفولته وتكوينه وشغفه بالرسم منذ ميلاده فى 13 من فبراير 1919 فى أحضان الثورة المصرية العظيمة التى اندلعت متزامنة مع ميلاده، وكأنها بشارة على أن الوليد الجديد الذى تعمد بنار الثورة الشعبية سيقود ثورة فنية فى عالم الرسم والخطوط والألوان.. فهو بالإجماع لم يكن مجرد رسام موهوب، بل فنانا أصيلا، والفارق هائل بين الرسام والفنان، فيمكنك أن تصادف كل يوم رساما، ولكن قد يمر قرنا من الزمان قبل أن يولد فنانا فى أصالة وموهبة واكتمال كنعان.
يمكننى أن أحكى لك عن الطفل الصغير الذى مسته النار المقدسة، فنشأ مولعا بالفن شغوفا بالرسم، ولا يجد إلا جدران البيت ليمارس عليها “شخبطاته” الطفولية، التى كانت تثير غضب والدته أحيانا فتنهال عليه بسببها لوما وتقريعا، لكنه أبدا لم يتراجع أو يرتدع، لأنه كان يجد فى الرسم لذة غريبة ونشوة عجيبة، ربما تعوضانه عن اليتم المبكر الذى عاشه وقسوة الحياة التى تفتحت عليها عيناه..
كان منير الصغير نتاج لهذا المزيج الحضارى: الشامى المصرى، فقد جاء والده من لبنان وتزوج من فتاة مصرية جميلة، أقام معها فى حى الظاهر، وفيه ولد منير وعاش وتعلم وتكون، وكان عمره عامان عندما حرمته الحياة من الأب، ووجد نفسه فى رعاية خاله، ووجد التعويض فى تلك الشخبطات على الحائط لأنه لا يجد ثمن الأوراق والأقلام اللازمة للرسم، وهى شخبطات سرعان ما تحولت إلى رسومات صريحة واضحة تدل على موهبة ربانية، راح الصغير يمارسها بشغف فى مدرسة الجمعية الخيرية بحى الظاهر، ولم يجد الصغير ما يعبر به عن إعجابه بمدرس اللغة الإنجليزية أفضل من رسم ملامحه على غلاف كراسته، ولم يجد المدرس وسيلة ليعبر بها عن إعجابه بتلميذه الصغير الموهوب أفضل من إهدائه كراسة جديدة حتى يحتفظ بالبورتريه المدهش، الذى لا تتفق روعته مع السنوات الست للرسام الصغير..
لم يكن مدرس الإنجليزى وحده الذى تنبه لموهبة الرسام الصغير، بل كان هناك خاله (ولى أمره)، ولكن الخال لم يهده كراسة جديدة كما فعل مدرس الإنجليزى، بل أهداه هو نفسه إلى صديق له يملك وكالة صغيرة تخصصت فى عمل لوحات الدعاية والإعلانات وتصميم الديكورات وواجهات المحلات، وجد الخال أنها فرصة ليسهم الصغير فى نفقات الأسرة، ووجدها الصغير فرصة ليشبع هوايته للفن، ولما كانت موهبته ساطعة ولامعة فإن صاحب الوكالة سرعان ما رفع أجره من 5 قروش فى اليوم إلى 25 قرشا، لكن الأهم من الفلوس أن منير الصغير عرف فى هذه السن المبكرة – كما يقول رواة سيرته – التعامل مع كافة الخامات، وعرف احترام وعشق أى جماد حتى لو رأيناه نحن تافها.. أما هو فكان يرى فيه ما لا نراه نحن من تألق، وكأنه يبحث عن الإيقاع الخفى فى أعماق ما نطلق عليه نحن: نفايات.
وضعته يد الله فى التجربة صغيرا، وتوالت التجارب العملية التى صقلت موهبته وضاعفت خبرته وأهلته لما هو قادم.. فبعد وكالة الدعاية وما اكتسبه فيها بدأ يمارس الرسم هاويا فى شكل بورتريهات يعرضها للبيع، وكان واحدا منها لملكة بريطانيا العظمى، لفت نظر ضابط إنجليزى ما يشع فيه من موهبة فلم يكتف فقط بشراء البورتريه، بل أخذ صاحبه ليعمل رساما للخرائط فى إدارة تابعة للجيش البريطانى مقابل عشرة جنيهات شهريا..
ومن إدارة الخرائط حيث تعلم وأتقن الحفر على اللوحات المعدنية، وجد نفسه فى تجربة جديدة مع الرسام الأمريكى “جون باك” عند مجيئه لمصر، فتتلمذ على يديه ثم سكن فى بيت الفنانين بدرب اللبانة ليتعلم ويتناقش ويجرب فتأهل للعمل فى دار الهلال يرسم أغلفة مطبوعاتها الشهيرة: روايات وكتاب الهلال.
يلمع كنعان فى دار الهلال وتظهر بصماته ولمساته على مطبوعاتها، مما يلفت نظر جواهرجى الصحافة وكاتبها الأشهر محمد حسنين هيكل، وبعيون “الجورناجي” الخبيرة المدربة يتابعه، حتى يقرر أن يلتقط تلك الجوهرة لتكون معه وبجانبه ليستفيد من تألقها وتفردها.. وجنونها..
كان كنعان نفسه يعتز كثيرا بتجربة عمله إلى جوار هيكل، ويعتبرها من أهم التجارب فى مسيرته مع العمل الفنى بالصحافة، ويحكى بنفسه:
“ذهبت إلى “آخر ساعة” أول مرة عندما طلبوا منى عمل تصميم خطى جديد لاسم المجلة (اللوجو)، أى أن أكتب اسـم المجلة عربيا وإنجليزيا.. وذهبت أسلمهم الاسم مرسوما.. وهناك قابلت حسنين هيكل وكان التابعى قد ضمه إلى المجلة، وعرض علىّ هيكل أن أعمل معهم، ولكن التابعى كان يجدد المجلة كى يبيعها لعلى ومصطفى أمين بمحرريها، وانتقل المحررون ومنهم حسنين هيكل وسعيد عبده وصاروخان إلى “ا لأخبار” وأصبحت أنا بلا عمل.. وفتحت بعدها مكتبا صغيرا للاعلانات وكنت أرسم الدعاية المطلوبة وكسبت وقتها كثيرا.. ثم طلب منى إميل وشكرى زيدان أولاد جورجى زيدان العمل معهم فى دار الهلال.. وبدأت معهم تجربة العمل بالصحافة لمدة ثمان سنوات كنت أرسم فيها كل شىء.. ثم استدعانى هيكل بعد ذلك لأعمل معهم فى الأخبار عام 1953 وبذلك أدخلنى هيكل عالم الصحافة مرتين.. الأولى أيام التابعى والثانية بعد أن اتجه هو لإصلاح وتطوير “آخر ساعة ” بعد أن فاجأنى بمكالمة تليفونية قال لى فيها: أنا هيكل عايز أشوفك، فذهبت إليه وقال لى: تعال اشتغل معايا.. فقلت: فين؟.. قال: فى “آخر ساعة” وراتبك ثمانية جنيهات.. وفى اليوم التالى كنت أفكر فى إميل زيدان وكيف سأترك دار الهلال؟ “.
ومن حينها ارتبط اسم كنعان بالمجلة العريقة، وقضى نصف قرن من عمره وعمرها مخرجا فنيا ورساما لأغلفتها ورسومها الداخلية ومطورا للإخراج الفنى لصفحاتها.. حتى أنه – كما يقول النقاد – أسس مدرسة خاصة فى الإخراج الصحفى وأغلفة المجلة المتفردة فى حجمها منذ الخمسينات.. واعتبروا ما قدمه ثورة فى تصميم أغلفة المجلات العربية مازجا فيه بين المذاهب الفنية الحديثة وتصميم الغلاف، كذلك تعد صفحات إخراجه لعدد من الحلقات المسلسلة نموذجا يدرس للإخراج الصحفى باعتماده على القيم التشكيلية والصحفية معا.. فكان مواكبا لحركة الفن العالمى ومطبقا لها على صفحات المجلة وأغلفتها بما يرقى بالذوق العام..
وخلال تلك التجربة الصحفية الطويلة الملهمة رسم كنعان المئات بل الآلاف من اللوحات التى سجلت أحداث الوطن وأحلامه وتاريخه وعواطفه وطموحاته وفنونه ونبضاته، وبينها غلافا عن الوحدة بين مصر وسوريا كان مثار إعجاب وتقدير الرئيس عبد الناصر، وكان أغلى إعجاب فى تاريخ كنعان، لأن راتبه زاد زيادة معتبرة فى الشهر التالى مباشرة بناء على تعليمات مصطفى وعلى أمين!
(3)
ويمكننى أن أحكى لك كذلك عن التجربة الأهم فى حياته، تجربته كرسام صاحب مدرسة وبصمة وثورة، وهى تجربة كانت سابقة وموازية ولاحقه بعمله كمستشار فنى لواحدة من أعرق الدور الصحفية، وخلال نصف قرن من مسيرته الإبداعية كان قادرا على أن يوزع وقته بالتساوى، يمارس مهامه كمستشار فنى فى مكتبه بعد الظهر، ومن مرسمه بدرب اللبانة يبدع لوحاته طوال الليل..
تستحق تجربة كنعان رساما أن نقف عندها طويلا، فما قدمه – كما وكيفا – يجعل منه أيقونة بين أكابر الرسامين المصريين ورائدا من رواده، وتكفيه شهادة عملاق مثل بيكار، أنقلها بنصها:
“كنعان أحد أهم الفنانين المصريين الذين لهم ذائقة مختلفة لفن جديد، حيث قدم كل شىء خلال مشواره الفنى، وربما أعترف للمرة الأولى بأننى أقتنى لوحتين لكنعان أعشقهما عشقا لا مثيل له، وقد سرقتهما منه، أى والله، حين تشاهدهما ستشعر بأن الألوان ترقص فوق اللوحتين مثل أنثى تتراقص على موسيقى لا تُسمع”.
وخلال تلك التجربة الفنية الثرية الاستثنائية مرت ريشة كنعان بمراحل متعددة ومتنوعة، من المهم أن نقف عند أبرز محطاتها:
المرحلة الأولى، وهى التى يسميها النقاد مرحلة “البواكى” أو “أولاد البلد”، وتمتد بين عامى 1942 إلى 1945، وفيها رسم القاهرة القديمة بأحيائها الشعبية وشوارعها وبواكيها ومشربياتها ومقاهيها ومساجدها وموالدها وناسها، واستخدم فى لوحاته خامات متنوعة من الفحم والباستيل والزيت والألوان المائية، وفى مرحلة التكوين هذه تجلت الروح الشعبية لكنعان وبان مدى التصاقه بالبيئة المصرية، كما بانت موهبته كرسام يمتلك كل أدواته، حتى أنك لا يمكن أن تشك لحظة أنه لم يدرس الفن دراسة أكاديمية، فقد كانت تجربته الحياتية مع موهبته الخلاقة كفيلتان بميلاد تجربة ثرية جدا قلما تتوفر لفنان.
المرحلة الثانية: ويسمونها “نحو المجهول”، ورغم قصر هذه المرحلة التى تمتد خلال عامى 1945 و1946 إلا أنها تكتسب أهمية خاصة فى مشواره، لأنها شهدت إرهاصات “التجريد” فى لوحاته، بل أن الناقد التشكيلى الكبير مختار العطار يذهب إلى أن كنعان هو رائد التجريد فى الحركة التشكيلية المصرية، وقال نصا عن تلك المرحلة والتجربة:
“يبدو أن منير كنعان فى مصر أول من تلقى الرسالة التى تفجّرت فى أوربا عامة وباريس خاصة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وكان من جرأتها شيوع الاتجاهات التجريدية اللاشكلية تعبيرا عن الحرية، بعد الكبت النازى الغاشم الذى كان يصادر الأساليب الفنية الحديثة ويطارد اصحابها.. استجاب كنعان فى هذا الوقت المبكر لنداء الحرية، فاشترك عام 1953 بلوحتين تجريديتين عُرضتا فى بينالى ساو باولو بالبرازيل، رسمهما عام 1945 و1946، فكان بذلك أول من مارس هذا الأسلوب فى الفنون المرئية المصرية”.
المرحلة الثالثة، ويسمونها مرحلة الموديل العارى وامتدت حتى العام 1949، وفيها قدم مفاتن الجسد البشرى، قدمها بروعة دون ابتذال.
حتى إنه – كما اعترف النقاد- جعل من العرى فنا مبهرا صادما أعدنا به اكتشاف أنفسنا وعالمنا، وجعل من الجسد حلا لأى مشكلة، وبعد أن كنا نجهل خريطة أجسامنا ومفاتيح أسرارها، رأينا مع لوحاته الحياة تتلألأ من ثنايا استدارات الجسد البشرى، وأحسسنا الفارق الكبير فى المعنى بين الجثة والجسد.. أن موديلات كنعان العارية تستدعى إلى الذاكرة لوحات عصر النهضة ونساء رامبرانت ومايكل أنجلو..
المرحلة الرابعة، واستغرقت 6 سنوات بداية من العام 1950، ومالت لوحاته إلى المدرسة التعبيرية، وعبّر فيها بريشته ووجدانه عن تلك المرحلة التاريخية الفارقة وأحداثها المصيرية التى مرت بها مصر، وصولا إلى ذروتها فى معركة تأميم القنال والعدوان الثلاثى، رصد كنعان بريشته الأحداث والمواقف ونبض الناس، حتى أطلق عليه النقاد وقتها لقب جبرتى الفن..
المرحلة الخامسة، وتمتد من العام 1956 إلى 1959، وكان عنوانها وقلبها “النوبة”، وشارك فيها عمالقة الرسم حينها فى السفر إلى أسوان لتسجيل تراث النوبة قبل أن تختفى تلك القرى النوبية وتغمرها مياة السد العالى
المرحلة السادسة، أو مرحلة التجريد التى يعتبرها النقاد بمثابة ثورة فى المفهوم التشكيلى المصرى بأكمله، ويسمونها مرحلة “المجهول لا يزال”، وتمتد خلال الفترة من 1959 وحتى 1963، وسجل خلالها ريادته لفن “الكولاج”، متمردا على الخامات التقليدية، متفننا فى استخدام “النفايات” وتحويلها إلى عناصر مهمة وفاعلة داخل محيط اللوحة، ولا تندهش عندما يستخدم غربالا قديما أو حلق خشب متهالكا وربما بقايا سجائر وصحف وخيشا وصفيحا ومسامير ، يصنع منها فى النهاية عملا بديعا مبهرا يشع بالجمال، وهو ما يعبر عنه الناقد الكبير عز الدين نجيب حين يقول:
” نجد أن كنعان قد مضى باللوحة إلى مدى أبعد من ذلك، فكان أول فنان مصرى يستخدم أسلوب الكولاج مبهورا بقيمة اللمس فى الأشياء”..
وهو معنى ليس ببعيد عما قصده الفنان أحمد فؤاد سليم حين قال عن كنعان:
“إنه يعيد تشكيل العالم.. كأن لديه أشعة إكس الفنية ينفذ من خلال العادى وأحيانا التافه إلى جوهر الجمال”.
أو ما عناه الفنان محمد عبلة بقوله:
” كنعان أحد أهم الفنانين المصريين الذين أحبوا الخامة تحت أيديهم، واستنبطوا من روحها كل جديد، لذلك تجده يتنقل فى إبداعاته من التصوير إلى التعبيرية إلى التأثيرية إلى التجريدية إلى شغل الكولاج الذى كان رائدا فيه “.
وعلى هذا المنوال يمكننى أن أسير فى سرد وتأصيل سيرة كنعان الفنان المتمرد غزير الانتاج ومتنوع المراحل، وتبيان ملامح عبقرية هذا الرسام المستعصى على التقليد،المستفز للإبداع، الراقص على سلم الجنون الفنى برشاقة.. السلم الصاعد بلا درجات وبلا سقف، لكنه لا يصعد عليه بل يحلق.. لا يخطو بل يطير، ليصبح هو اللون والضوء والظل..
تجربة كل شىء فيها كان حقيقيا وصادقا.. وكان صاحبها حريصا طوال مراحها على أن يظل متجددا مُلهما، مهما كانت المعاناة وفداحة الثمن.. وحتى لو كان هو نفسه طوال رحلته أشد وأشرس نقادها على أعماله.. وعليك أن تتأمل صدق كلماته:
” بعد أن أنتهى من اللوحة وتحل البرودة بالماكينة الداخلية ويصيب الهدوء كل شىء أذهب لمشاهدة اللوحة، وأكون شديد القسوة فى الحكم، وفى حال ما إذا كنت أقدم تجربة جديدة وخارجة عن المألوف فلا مفر من الخضوع لنقد على نفس المستوى.. ولذلك لا توجد لدى لوحة تكرار لأخرى على الإطلاق، ربما توجد رابطة ولكن التكرار مستحيل، وهذا ما ارهقنى فى مشوارى”..
(4)
رغم كل تلك التفاصيل والاعترافات والمعلومات لكن صورة المشوار ستظل منقوصة إن لم نرها بعين عارفة عاشقة، عاشتها عن قرب حد الالتصاق، ورأتها رؤى العين والقلب حد الذوبان.. فتعالوا لنرى كنعان بعيون سناء البيسى (وللحديث بقية).