العلاج من خلال القراءة: الكتب كعلاج

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


العلاج بالقراءة «الببليوثيرابيا» (Bibliotherapy)، هو مصطلح علمي يشير إلى استخدام الكتب والمواد القرائية كوسيلة علاجية للمساعدة في معالجة المشكلات النفسية أو السلوكية أو حتى الجسدية، من خلال تفاعل القارئ مع النصوص تحت إشراف مختص، ويعرف قاموس «دورلاند الطبي المصور» المصطلح بأنه «استخدام الكتب كوصفة علاجية للمرضى»، ويشمل ذلك الأدب الواقعي والخيالي بحسب احتياجات الحالة، ويعد هذا النهج أداة فعالة في العلاج النفسي، حيث تساعد القراءة الموجهة في تحقيق التبصر وتغيير الأفكار، وتخفيف الضغوط النفسية.

ويرى العالم النفسي كارل غوستاف يونغ أن القصص والأساطير تلعب دوراً جوهرياً في الشفاء النفسي لأنها تعكس «اللاوعي الجمعي» الذي يحتوي على أنماط أولية مشتركة بين البشر عبر الثقافات، وهذه الأنماط تظهر في الأحلام والخيال والقصص التي تساعد الأفراد على فهم أنفسهم بشكل أعمق.

ويقول سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، إننا «من خلال عملية التماهي نفهم الآخرين الذين يشبهوننا، وهذا يساعدنا بشكل غير واع على فهم أنفسنا»، انطلاقاً من هذا الأساس، تطورت تقنية العلاج بالقراءة كمنهج علاجي يعتمد على التفاعل النفسي مع النصوص الأدبية، حيث يرى فرويد وتلامذته أن الأدب يمكن القارئ من إسقاط مشاعره وأفكاره على الشخصيات والأحداث، مما يتيح له معالجة الصراعات النفسية الداخلية بطريقة آمنة وغير مباشرة.

وقد طورت كارولين شرودز، أستاذة الأدب وعالمة النفس، هذا المفهوم في منتصف القرن العشرين، مؤكدة أن هناك علاقة تكاملية بين ديناميات الشخصية والتجربة الجمالية في الأدب، وحددت شرودز أربع مراحل أساسية في العلاج بالقراءة: التماهي مع الشخصيات، الإسقاط، التطهير النفسي، والوصول إلى البصيرة، وهي مراحل مشابهة لما يحدث في العلاج النفسي التقليدي، كما أن حالة التفاعل العميق مع النصوص تتيح للقارئ فرصة لإعادة بناء خبراته ومشاعره، وتعزيز قدرته على التكيف والنمو النفسي.

وتشير الدراسات الحديثة إلى أن «الببليوثيرابيا»، عندما تمارس في إطار منظم وتحت إشراف مختصين، تسهم في إحداث تحولات معرفية وسلوكية لدى الأفراد، وتعد وسيلة فعالة ومنخفضة الكلفة لتحسين الصحة النفسية، خاصة في حالات الاكتئاب والقلق واضطرابات التكيف، وتؤكد الأبحاث أن قوة الأدب تكمن في قدرته على خلق مساحة آمنة للتعبير عن المشاعر، وتحفيز التفكير الذاتي، وتسهيل معالجة المشكلات النفسية بطرق مبتكرة وعميقة من خلال التفاعل مع النصوص الأدبية.

جذور تاريخية

تعود جذور العلاج بالقراءة إلى العصور القديمة، إذ كانت المعابد الفرعونية تلقب ب«بيوت علاج الروح»، وكانت المكتبة الطبية للطبيب اليوناني القديم جالينوس مفتوحة للجميع ممن يريد القراءة بهدف فهم الذات وحل المشكلات مع الآخرين، وفي القرن الثالث عشر الميلادي كان القرآن الكريم يوصف كعلاج للمرضى الراقدين في مستشفى المنصور في القاهرة كجزء من برنامج علاجي للمرضى، إلى جانب الجراحة والعقاقير، أما في أوروبا، فقد بدأ استخدام القراءة كوسيلة علاجية في نهاية القرن الثامن عشر، عندما أوصى بنيامين روش بالقراءة لعلاج المرضى النفسيين عام 1802، ومع مطلع القرن التاسع عشر، ارتبط تطور «الببليوثيرابيا» بتطور خدمات المكتبات في المستشفيات العقلية، وتوسعت الممارسة مع تأسيس مكتبات متخصصة للمرضى.

شهد القرن العشرون تطوراً كبيراً في «الببليوثيرابيا»، حيث برزت كاتلين جونز عام 1904 كأول أمينة مكتبة تطبق برامج علاجية ناجحة بالقراءة في مستشفى ماكلين بالولايات المتحدة، كما أسهمت الحرب العالمية الأولى في تعزيز انتشار العلاج بالقراءة من خلال بناء مكتبات في المستشفيات العسكرية، وتطور المصطلح علمياً مع استخدامه لأول مرة عام 1916 بواسطة صامويل كروذرز، وأصبح اليوم فرعاً معترفاً به في علم المكتبات والصحة النفسية، مع برامج علاجية متخصصة في العديد من المؤسسات حول العالم.

مقارنة

تعتبر التجربة الغربية متطورة في استخدام «الببليوثيرابيا» كأداة علاجية، حيث تم الاعتماد فيها على العلاج بالقراءة بشكل مؤسسي منذ القرن التاسع عشر، حين بدأت المستشفيات والمكتبات في أوروبا وأمريكا بتقديم كتب مختارة للمرضى النفسيين ضمن برامج علاجية رسمية، ومنذ منتصف القرن العشرين أصبحت «الببليوثيرابيا» جزءاً من العلاجات النفسية المعتمدة، ويشرف عليها مختصون نفسيون وأمناء مكتبات مدربون، مع تطوير أدلة علاجية وأبحاث علمية تثبت فاعلية القراءة في خفض التوتر وتحسين المزاج وتعزيز مهارات التكيف، كما ظهرت مدارس متخصصة مثل «مدرسة الحياة» في لندن تقدم جلسات علاجية فردية وجماعية تعتمد على الأدب القصصي.

في المقابل، لا تزال التجربة العربية في العلاج بالقراءة محدودة، وإن كانت تحمل في طياتها بذوراً واعدة، ونجد تجارب لتقديم برامج قراءة علاجية للمرضى في بعض المستشفيات العربية، لتسهم في تخفيف مشاعر الخوف والوحدة، وتعزيز قدرة المرضى على التكيف مع الألم والمرض، كذلك أطلقت بعض المكتبات العامة في الإمارات والمغرب جلسات قراءة علاجية جماعية، تستهدف الأطفال والمراهقين وذوي الاحتياجات الخاصة، ويمكن اعتبار غالبية هذه المبادرات ما تزال في طور التجريب والتوسع.

تتفق التجربتان العربية والغربية في اعتماد القراءة كوسيلة فعالة لتحسين الصحة النفسية، لكن التجربة العربية تتميز بجذورها الدينية والثقافية العميقة وتنوع مصادرها بين القرآن والشعر والأدب، بينما تركز التجربة الغربية على الجانب العلمي والمنهجي، مع توثيق النتائج وتطوير برامج علاجية معيارية قابلة للتقييم والقياس.

ورغم أن العلاج بالقراءة أصبح جزءاً أصيلاً من منظومات الصحة النفسية في الغرب، إلا أن التجربة العربية ما زالت تراوح مكانها، وتتلمس طريقها وسط تحديات ثقافية ومؤسسية، وتطلعات لمستقبل أكثر حضوراً للقراءة في العلاج النفسي والاجتماعي.

مشاعر مكبوتة

يعتبر كتاب «العلاج بالقراءة» لشعبان عبد العزيز خليفة من المؤلفات الأكاديمية المتخصصة التي تناولت «البيبليوثيرابيا» من منظور علمي دقيق. يبدأ شعبان عبد العزيز كتابه بتعريف مفصل للعلاج بالقراءة، ويستعرض تاريخه وتطوره في الغرب، مع الإشارة إلى تطبيقاته في الطب النفسي والمكتبات العلاجية. يوضح المؤلف أن «البيبليوثيرابيا» تعتمد على فكرة أن التفاعل مع النصوص المقروءة يمكن أن يحدث تغييرات نفسية وسلوكية إيجابية لدى الأفراد.

يفصل الكتاب في أنواع «البيبليوثيرابيا»، حيث يميز بين العلاج بالقراءة الموجهة (الذي يتم تحت إشراف معالج أو أمين مكتبة متخصص) والعلاج الذاتي بالقراءة (الذي يقوم به الفرد بمبادرة شخصية). يشرح خليفة أن نجاح العلاج بالقراءة يعتمد على عدة عوامل، منها دقة تشخيص الحالة، وملاءمة المادة المقروءة لاحتياجات القارئ، ووجود علاقة ثقة بين المريض والمعالج.

يستعرض المؤلف بالتفصيل آليات عمل العلاج بالقراءة، حيث يشير إلى أن القراءة تتيح للفرد التعبير عن مشاعره المكبوتة، وتمنحه فرصة لرؤية مشكلاته من منظور مختلف، كما تساعده على اكتساب مهارات جديدة في التكيف وحل المشكلات. يورد خليفة أمثلة واقعية من عيادات نفسية ومستشفيات استخدمت «البيبليوثيرابيا» كجزء من برامج علاجية شاملة، ويستعرض نتائج دراسات أظهرت تحسن حالات القلق والاكتئاب لدى المرضى بعد تطبيق جلسات قراءة موجهة.

يخصص الكتاب فصلاً لمناقشة دور المكتبات في العلاج بالقراءة، ويؤكد أهمية تدريب أمناء المكتبات على مهارات التواصل النفسي واختيار الكتب المناسبة للمرضى. كما يعرض قوائم بالكتب والمواد المقروءة التي أثبتت فاعليتها في العلاج، مع تصنيفها حسب الفئات العمرية والاضطرابات النفسية المستهدفة.

رؤية شمولية

يعالج كتاب «العلاج بالقراءة..كيف نصنع مجتمعاً قارئاً» لحسن آل حمادة العلاقة الوثيقة بين القراءة والصحة النفسية، ويطرح رؤية شمولية حول كيف يمكن للقراءة أن تكون أداة فعالة في بناء مجتمع متوازن نفسياً وفكرياً، يبدأ حسن آل حمادة كتابه بتعريف «البيبليوثيرابيا» وتوضيح تاريخها، مستشهداً بأبحاث ودراسات علمية تؤكد أن القراءة المنتقاة تسهم في تخفيف الضغوط النفسية، وتساعد الأفراد على تجاوز الأزمات الحياتية.

يستعرض المؤلف في فصول الكتاب تجارب واقعية لأشخاص وجدوا في القراءة ملاذاً آمناً من القلق والاكتئاب، ويشرح كيف أن التماهي مع شخصيات الروايات أو الاطّلاع على قصص النجاح يمكن أن يلهم القارئ ويمنحه الأمل في التغيير. يولي حسن آل حمادة أهمية كبيرة لدور الأسرة والمدرسة في غرس عادة القراءة منذ الصغر، ويقترح برامج عملية لتشجيع الأطفال والشباب على القراءة، مثل تخصيص أوقات للقراءة الجماعية، وتنظيم مسابقات أدبية، وتوفير مكتبات مدرسية غنية ومتنوعة.

يتطرق الكتاب أيضاً إلى أهمية البيئة الداعمة للقراءة، ويؤكد أن توفير مصادر مقروءة متنوعة وسهلة الوصول هو شرط أساسي لنجاح أي برنامج علاجي أو تثقيفي قائم على القراءة، يناقش المؤلف نتائج دراسات حديثة أجريت في دول مختلفة، والتي أثبتت أن القراءة المنتظمة تخفض من معدلات الاكتئاب والقلق، وتزيد من مستويات الذكاء العاطفي والتعاطف مع الآخرين.

ويتحدث حسن آل حمادة عن دور القراءة في تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات، ويشير إلى أن القراءة ليست فقط وسيلة للهروب من الواقع، بل أداة لفهم الذات والعالم بشكل أعمق. كما يعرض نماذج لبرامج علاجية قائمة على القراءة تم تطبيقها في مدارس ومراكز علاجية عربية وأجنبية، مع توضيح آليات التنفيذ ونتائج المتابعة. ويدعو المؤلف إلى ضرورة تبنّي القراءة كجزء من الخطط الوطنية للصحة النفسية، ويحث الأخصائيين والمعلمين وأولياء الأمور على التعاون في نشر ثقافة القراءة العلاجية. الكتاب موثق بمراجع أكاديمية ودراسات ميدانية، ويعد مرجعاً هاماً لكل من يهتم بالعلاج بالقراءة أو يسعى لنشر ثقافة القراءة في المجتمع.

مواجهة المشكلات

يعد كتاب «تجربتي مع العلاج بالقراءة» لهالة الأبلم من المؤلفات العربية الرائدة التي تناولت موضوع العلاج بالقراءة من منظور تطبيقي وتجريبي. تبدأ هالة الأبلم كتابها بسرد تجربتها الشخصية والمهنية كأخصائية نفسية استخدمت القراءة كأداة علاجية في التعامل مع حالات متنوعة من الاضطرابات النفسية والسلوكية، تشرح المؤلفة في كتابها الأسس النظرية ل«البيبليوثيرابيا»، حيث تشير إلى أن هذا النوع من العلاج ليس حديث العهد، بل تعود جذوره إلى العصور القديمة حينما كان يُنظر إلى الكلمة المكتوبة كوسيلة للشفاء الروحي والعقلي.

تستعرض هالة الأبلم في فصول الكتاب المختلفة كيف أن القراءة الموجهة يمكن أن تساعد الأفراد على مواجهة مشكلاتهم النفسية، وأنها تتيح للمرضى التعبير عن مشاعرهم وفهم ذواتهم بشكل أفضل من خلال التماهي مع شخصيات الكتب أو الأحداث الروائية، وتركز المؤلفة على أهمية اختيار المواد المقروءة بعناية فائقة، بحيث تتناسب مع عمر القارئ واهتماماته وحالته النفسية، وتشدد على ضرورة أن يكون المعالج أو المرشد على دراية كافية بأنواع الأدب والكتب المناسبة لكل حالة.

تقدم هالة الأبلم نماذج عملية من واقع خبرتها، مثل حالات لأطفال يعانون القلق الاجتماعي، وشباب يمرون بأزمات هوية، ونساء يعانين الاكتئاب أو فقدان الثقة بالنفس. توضح كيف أسهمت القراءة الموجهة، سواء كانت قصصاً قصيرة أو روايات أو حتى كتب تطوير الذات، في تحفيز هؤلاء على التعبير عن مشاعرهم وتجاوز أزماتهم، كما تبين أن القراءة الجماعية في مجموعات دعم صغيرة كان لها أثر إيجابي في تعزيز الشعور بالانتماء وتبادل الخبرات.

تعرض المؤلفة أيضاً خطوات عملية لتطبيق العلاج بالقراءة، بدءاً من تقييم الحالة، مروراً باختيار المادة المقروءة، ثم مناقشة الأفكار والمشاعر التي تثيرها القراءة، وصولاً إلى متابعة التقدم وتقييم النتائج، وتوصي بضرورة تدريب الأخصائيين النفسيين والمعالجين على هذا النوع من التدخل العلاجي، الكتاب موثق بأمثلة واقعية، ومراجع عربية وأجنبية حول البيبليوثيرابيا، مما يجعله مرجعاً عملياً ونظرياً في آنٍ واحد.



‫0 تعليق

اترك تعليقاً