إخفاق البشر في امتحان الإنسانية

إخفاق البشر في امتحان الإنسانية


كمال بالهادي *

لطالما ترددت في فضاءاتنا العامّة والخاصّة، مفاهيم أو مصطلحات تتعلق بالقيم الإنسانية أو بمبادئ حقوق الإنسان، وتحرص المدارس والجامعات على إدراج هذه المفاهيم في الدروس الموجهة للطلاب أو في الندوات العلميّة أو مخابر البحوث، ويلتقي الجميع عند المطالبة بتطبيق هذه المبادئ الإنسانية في الممارسة السياسية والاجتماعية.
ولكن السؤال الذي يلحّ علينا كباحثين هو: ما مدى أنسنة الممارسة الإنسانية في أنظمتنا القائمة، سواء على مستويات محلّية أو إقليمية أو دوليّة، وخاصة في زمن الأزمات والصراعات والحروب الكبرى؟ والإجابة إن لم تكن مؤكّدة تجريبياً فإنها ترتقي إلى مستوى قريب جداً من الحقيقة المطلقة، وهي أنّ الإنسانية ما زالت بعيدة جداً عن الأنسنة أي عن التطبيق الشامل لكل المواثيق الإلهية التي اشتملتها النصوص الدينية، أو القوانين الوضعية التي صاغها الإنسان نفسه وصارت تسمّى قوانين دولية، وتتخذ لها حضانة تسمّى الشرعيّة الدولية أو المجتمع الدولي.
إنّ إنسان هذا العصر الذي توفرت له إمكانات معرفيّة لم يعرفها منذ وجوده على هذه الأرض، فشل في امتحان الأنسنة، ونال صفراً في كل مواد هذا الاختبار العظيم، وأظهر أنّه لا يختلف عن أسلافه في العصور القديمة من حيث الممارسات الوحشية أو من التوحّش، حتى وإن تسربل بشعارات الحداثة والقيم الإنسانية الساميّة.
ذلك أن الممارسة الواقعية تفضح هذا الإنسان وتعرّيه وتضعه أمام حقيقة لا تقبل التزييف، وهي الانغلاق والعنف وغياب الاعتدال والتعصّب اللامحدود. فلئن حفل التاريخ الإنساني في القرن العشرين بحربين عالميتين كبريين أزهقت أرواح مئات الملايين من الأبرياء، فإنّه لا أحد يمكن أن ينكر المحرقة ضدّ الإنسان مهما اختلفت انتماءاته الدينية أو العرقية أو المذهبية في تانك الحربين العالميتين، ولكن هل استفاد الإنسان من دروس الماضي، وهل استطاع أن يكفّر عن ذنبه بتغليب الأنسنة، أي بتغليب روح الانفتاح والاعتدال تجاه الظواهر الدينية والاجتماعية، إضافة إلى تنمية الميول العلمية والنقدية؟ الإجابة تكون بالنفي شبه الكلّي، لأن الممارسة الإنسانية والعلاقات الدولية قامت على قوانين الإخضاع والهيمنة واستمرار الحروب والصراعات بأشكال أكثر توحّشاً وعنصريّة. ولنكن أكثر وضوحاً، فإن الإنسان في هذا العصر لم يتخلّ عن قانون الغاب، الذي يقوم على مبدأ البقاء للأقوى، حتى وإن رفع أرفع شعارات الأنسنة. ففي الهيئات الأممية تفرض القوى الكبرى قراراتها دون أي مراعاة لمصلحة الشعوب الأخرى، ومجلس الأمن الذي يشكل عصا هذا المجتمع الدولي يعبّر عن منطق الأقوياء لا الضعفاء، وفي العلاقات التجارية التي سعى المجتمع الدولي إلى تنظيمها منذ عام 1995، بإرساء منظمة التجارة العالمية، فرضت مصالح الأقوياء على الضعفاء اقتصادياً وتجاريّاً، وقد كانت حروب ترامب «الجمركية» التي شنها على العالم مؤخراً شاهداً إضافياً على ضعف أنسنة الممارسة التجارية والاقتصادية على مستوى دولي.
أما في حرب غزة، فقد سقطت كل الأقنعة وتعرّت الإنسانية أمام قيمها ومبادئها رغم محاولات الشعوب التصدي للتوحش الإسرائيلي في كل الفضاءات المفتوحة واقعياً وافتراضياً. المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيز تقول على سبيل المثال: «غزة تحوّلت بالكامل إلى معسكر اعتقال، والموت هو النهاية لسكانها في ظل ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي من تسريع لعمليات القتل بشتى السبل». وقد سبق لها أن صرّحت: «أقول دون تردد إن ما يحدث في غزة ليس حرباً، بل إبادة جماعية، ورغم أن الدول الغربية غير مرتاحة لاستخدام كلمة إبادة جماعية، لكن الإبادة الجماعية في غزة تذكرنا بالهولوكوست».
ومثل هذا الرأي تتفق حوله الكثير من الآراء في هذا المجتمع الدولي العاجز عن تحقيق الحد الأدنى من الالتزامات الدولية، فهل نستطيع إنكار فشل الإنسان في اختبار الإنسانية المطلقة وفي مادة أنسنة الممارسة والفكر البشري؟ إن كل مشاريع التقارب بين أتباع الأديان وإعلاء قيم التآخي بين الأفراد، لا يمكنها أن تصمد أمام رغبات الهيمنة والإخضاع وحتى الاستعمار الجديد بأدوات تقليدية ومتجددة. ذلك أنّ الإنسان سيعود سريعاً إلى مربّع الحمائية المستمدّة من الهوية الثقافية والدينية، في وجه رغبات المحو من الوجود.
وفي هذا لا يمكن إعفاء الطرف الآخر من الدفع نحو الانغلاق والتمسك بالثوابت التي تكون أحياناً غاية في التطرف، لأنه هو ذاته يمارس تعصباً وانغلاقاً وتطرفاً قولاً وفعلاً. ألم تعد الولايات المتحدة على سبيل المثال إلى مربع الحمائية التجارية في مواجهة كل دول العالم رغم أنها لا تواجه خطراً وجودياً؟ ألم تعد إسرائيل إلى مربع الحمائية الدينية عندما أقرت قانون يهودية الدولة وبنت على أساسه ممارسة سياسية وعسكرية تتجلى بوضوح في الجرائم التي دانتها المحاكم الدولية والمرتكبة في قطاع غزة؟
إن إنسان القرن الحادي والعشرين، وإن تمترس خلف موجات الذكاء الطبيعي والإنساني، هو في جوهره لا يختلف عن ممارسات إنسان العصر الحجري، لأن منطق القتل والإلغاء هو المنطق السائد على مدى تاريخ هذا الإنسان، فإما حرباً أو استعداداً للحرب كما قال ميخائيل نعيمة.
[email protected]



تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *