
شخصيات لها تاريخ «71»
الهلباوى ينتمى لأسرة فى البحيرة لم تملك قيراطاً واحداً وجده جاء من المغرب وعمل «مراكبى» فى رشيد
المصريون تعاملوا معه بصفته الوطنية فطلبوا منه الدفاع عنهم فى قضية التظاهر ضد قانون المطبوعات
قضى إبراهيم الهلباوى حياته يبحث عن مبرر يسمح له بمحو آثار الجريمة التى اشترك فيها ضٍدّ أهالى دنشواى
الهلباوى هو أشهر محام عرفته مهنة المحاماة فى تاريخها وأول نقيب للمحامين، وهو الذى خان ضميره الوطنى والمهنى ووافق على القيام بدور النائب العمومى فى قضية خطيرة هى قضية دنشواى، التى عاش المصريون وقائعها فى 13 يونيو 1906 وما بعده من أيام حزينة رهيبة، وقضى ـ جلّاد دنشواى ـ بقية عمره ملعونا من الشعب بكافة طوائفه، لأنه المسئول عن إعدام أربعة فلاحين وجَلد آخرين ضمن محكمة مخصوصة أقامها الاحتلال البريطانى فى القرية ليرهب الفلاحين ويكسر عزائمهم بعد أن قاوموا كتيبة من الجيش البريطانى، أحرقت بنيران بنادقها أجران القمح وأصـــابت زوجـــة مأذون الـــقرية، وحاول ـ المحامى الكبيرـ التماس العفو من الشعب؛ فتطوع للدفاع عن وطنيين فى قضايا سياسية أخرى منها قضية تلغرافات صحيفة المؤيد التى كان متهما فيها الشيخ على يوسف، وقضية مقتل بطرس غالى التى كان المتهم فيها إبراهيم الوردانى عضو الحزب الوطنى، والمعروف أن قتل بطرس غالى كان عقابا له على رئاسته محكمة دنشواى وإقراره بإعدام الفلاحين..
فى التاريخ أبطال حققوا مجدهم بالتضحية فى سبيل معنى أو فكرة أو قضية، وفى التاريخ أشخاص أنانيون، أوقعتهم الأنانية فى شَرَك الخيانة واللعنة من الشعب على مدى الأجيال والأزمان، ومن هؤلاء الأبطال الفلاح المصرى محمد زهران الذى أعدم فى 1906 بموجب حكم محكمة دنشواى التى شكلها الاحتلال البريطانى لعقاب الفلاحين الذين تصدوا لجنود كتيبة بريطانية مرّت من القرية وأطلق ضباطها وجنودها النار فأحرقوا أجران القمح وأصابوا امرأة، وكان محمد زهران ـ الفــلاح البطل الشعبى ـ من بين أربعة فلاحين صدر ضدهم حكم الإعدام من محكمة مخصوصة شكلها اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى برئاسة بطرس غالى وعضوية فتحى زغلول شقيق الزعيم سعد زغلول، وقام بدور النائب العمومى المحامى المشهور ـ إبراهيم الهلباوى ـ الذى نالته لعنة الشعب، وحاول أن يبرر هذا الفعل طوال حياته ولم يقبل الشعب توبته، لأنه ترافع ثلاث ساعات ضد هؤلاء الفلاحين الفقراء، وقبض ثلاثمائة جنيه، ولعنات مازالت تطارده، وفى مذكراته التى نشرها مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر بتحقيق الدكتور عصام ضياء الدين، وتقديم الدكتور عبدالعظيم رمضان، وفيها سرد المحامى المشهور قصة صعوده، وحاول أن يقدم دفاعا عن نفسه ليمحو لقب “جلّاد دنشواى” الذى التصق به..
يقول دكتور عبد العظيم رمضان فى تقديمه مذكرات إبراهيم الهلباوى:
ـ من المحقق أن إبراهيم الهلباوى، هو وطنى مصرى كفّر عن سيئة دنشواى بمئات من الحسنات، بل من الغريب أن الوطنيين المصرين تعاملوا معه على هذا الأساس، وليس على أساس موقفه فى دنشواى فلم يستبعدوه من الصف الوطنى ويعتبروه فى صف الاحتلال، إنما تعاملوا معه بصفته الوطنية فطلبوا منه الدفاع عنهم فى قضية التظاهر ضد قانون المطبوعات المُكبِّل لحرية الصحافة التى قُبض فيها على كثير من الطلبة بقيادة أحمد حلمى صاحب جريد القُطر المصرى، وفى ذلك تقدير خفىّ لدوافع موقفه فى قضية دنشواى بقدر ما هو تقدير صريح لبراعته المهنية فى المحاماة، كذلك حرص إبراهيم الوردانى الذى قتل بطرس غالى على الاستعانة بإبراهيم الهلباوى فى الدفاع عنه رغم سابق معرفته بمرافعته ضد الفلاحين فى قضية دنشواى.
لكن الكاتب الصحفى والباحث فى التاريخ صلاح عيسى رأى ـ إبراهيم الهلباوى ـ بعين أخرى تختلف عن العين التى رآها به دكتور عبدالعظيم رمضان أستاذ التاريخ الحديث:
ـ اسمه إبراهيم الهلباوى.. على المستوى العام عرفه الناس باعتباره واحدا من أعظم المحامين الذين أنجبتهم مصر إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، أما على المستوى الشخصى فإن حياته كانت ـ تراجيديا مصرية ـ فاجعة، فقد كانت سيرته نموذجا تقليديّا لقصة حياة البطل الذى يخطئ مرة واحدة فتوُدى به خطيئته، ويظل يجاهد العمر كله لكى يحصل على الغُفران، فيوصد الشعب قلبه دونه، ولايرق له وهو الشعب الطيب الذى طالما غفر لكثيرين وعفا عن كثيرين، ذلك رجل تغنّى به الناس، دخل حياتهم اليومية فقالوا فيه الأمثال، ورووا عنه الفكاهات والأساطير وأحبُّوه كأعظم ما يكون الحب، وكرهوه كأعظم ما يكون الُكرْه..
وقال عنه ـ عباس العقاد ـ واصفا مهارته فى المحاماة:
ـ كان ذلاقة لسان لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها..
العقاب الصامت
العقاب الصامت أو الخفى، هو نوع من العقاب تصدره الجماعة على واحد من أفرادها وتحتفظ به فى سجل مخصوص، وتستدعيه كلما حاول هذا ـ الواحدـ تجاوز العقبة والحصول على ما ليس من حقه، وهذا العقاب الصامت جعل له المصريون ـ ديباجة ـ شبه محفوظة ومعروفة على مدى التاريخ وفى كل الأقاليم وهذه الديباجة تبدأ بعبارة “.. وهل تظن أننا نسينا يوم فعلت كذا وكذا..” وبعد هذه العبارة تأتى عبارة “إنما سكتنا على جريمتك من أجل كذا، لكن أن تحاول أن تستغفلنا، فهذا لن نسمح لك به..” وهذا ما حدث مع ـ إبراهيم الهلباوى ـ الذى صال وجال وأظهر قدراته القانونية والمنطقية فى “دِنشواى” وكان ضمن محكمة ترأسها “بطرس غالى” حكمت على الفلاحين بالشنق والجلد ـ فى حضور الأهالى ـ وهى من تدبير “كرومر” المندوب السامى البريطانى، وصدر العقاب الصامت ضد ـ الهلباوى ـ وظن أن الناس قد نسوا جريمته، فقرر أن يرشح نفسه فى انتخابات عامة ليكون “النائب” الممثل للشعب، ووجد من المحامى الشاب ـ دكتور محمد حسين هيكل ـ القول الواضح الذى ذكَّره بما جرى فى دنشواى..
والقصة ذكرها ـ دكتور هيكل ـ فى مذكراته الصادرة عن ـ دار المعارف ـ بعنوان: مذكرات فى السياسة المصرية:
ـ فى سنة 1913 صدر قانون نظامى جديد أحل ـ الجمعية التشريعية ـ محل مجلس الشورى والجمعية العمومية وعُدّ خُطوةً فى سبيل النظام النيابى المصرى وجاء ـ هلباوى بك ـ يوما إلى ـ المنصورة ـ وقضيتُ معه سهرة اشترك فيها عبد الرحمن بك الرافعى والأستاذ حسن حسنى المحاميان، وفى أثناء الحديث قال ـ هلباوى بك ـ إنه يريد أن يرشح نفسه لعضوية الجمعية التشريعية وإنه يرى هذه أنسب فرصة ليدافع عن موقفه فى قضية ـ دنشواى ـ ودار الحديث بينه وبين الصديقين اللذين شاركاه الحديث فى هذا الأمر واللذان انتهيا إلى موافقته على رأيه، فهو فى قضية ـ دنشواى ـ لم يكن إلا محاميا طُلِب إليه أن يترافع فى قضية فترافع فيها، شأنه فى ذلك شأنه فى أية قضية يقف فيها إلا فى جانب المدعى بالحق المدنى، وليس من حق المحامى أن يتنحى عن أداء واجبه، وليس من حقه لأى اعتبار من الاعتبارات أن يقصر فيه، وهو فى دفاعه قد قَسَا على المتهمين لأن موقفه كان يقتضى هذه القسوة، لكنه فعل ذلك لينجِّى ـ مصر ـ من آثار لم يكن يعلمها إلا الله، وقد كان ـ هلباوى بك ـ لبِقا غاية اللباقة فى شرح موقفه من ـ دنشواى ـ ووافق صديقاى على ما قاله، وعلى أن من الخير أن يرشح نفسه للجمعية التشريعية، وبقيتُ صامتا لا أتكلم، ولا أُبدى رأيا بالموافقة أو بعدم الموافقة، عند ذلك اتجه إلىَّ الرجل وقال:
ـ وما رأيك أنت يا هيكل؟
ـ أرجو أن أُعفَى من إبداء الرأى..
ـ ولماذا؟
ـ لأننى لا أريد أن أقول شيئا لا أعتقده، ولا أن أقول شيئا يُغضِبك..
ـ بل قل ما تعتقد ولن أغضب..
ـ إن قضية دنشواى لم تكن قضية عادية يدافع ـ هلباوى بك ـ عن موقفه فيها بأنه أدَّى واجب المحامى، بل كانت قضية بين مصر وإنجلترا، وقد وقفتَ سعادتك فى صف إنجلترا، فمن الخير أن تترك الزمن يُسدِل على موقفك هذا ستار النسيان، وما قُمت به فى خدمة وطنك قبل هذه القضية وبعدها خير ما يعاوِن على تكثيف هذا الستار..
ويقول دكتور محمد حسين هيكل:
ـ لم يُجِب ـ هلباوى بك ـ على ما قُلْتُ، ولم يقل أحدٌ من صديقىّ كلمة، بل سادت فترة صمت، انتقلنا بعدها إلى حديث آخر، وتبسّط ـ هلباوى بك ـ فى هذا الحديث الآخر كعادته، وكأننا لم نقُل شيئا فى موضوع يمسُّه بالذات، على أنه لم يرشح نفسه للجمعية التشريعية، ولم يغضب منّى وبقيت صلتُنا بعد هذا اليوم كصلتنا قبله، صلة أبوَّة من جانبه فيها محبة ووفاء، وكذلك بقينا إلى أن اختاره الله إلى جواره بعد ثلاثين سنة من هذا الحديث.
الهلباوى يروى القصة
والقصة لم تكن معركة فى سوق أو حارة فى القاهرة، كانت قصة شعب واقع تحت الاحتلال أراد ” كرومر” أن يؤدبه ويجعل من “دنشواى” عِبرةً لكل القرى، حتى لا يقرر الشعب التمرد على قوة الاحتلال، فاستعان برجال النخبة المتصالحين مع الاحتلال وجعلهم فى صورة محكمة مخصوصة انعقدت فى نفس موقع المواجهة بين الفلاحين المدافعين عن عرضهم ومورد رزقهم وبيوتهم، والضباط البريطانيين هواة صيد الحمام، وكان ـ الهلباوى ـ هو النائب العام أو المدّعى العام الذى أُختير للمشاركة فى هذه الجريمة، وصدرت الأحكام بإعدام الفلاحين وجلدهم ـ فى حضور الأهالى ـ بعد المرافعة الرهيبة التى قدمها المحامى العبقرى، لكنه لم يفلت من عقاب الشعب وكتب فى مذكراته ما يبرر به دوره فى المحكمة، وهذه هى السطور التى حاول بها التماس العفو من الشعب المصرى:
ـ يُخيّل إلىّ أن الذين سيقع فى أيديهم هذا الكتاب، سيقلبون صفحاته سِراعاً باحثين عن تلك القضية التى شاء القدر أن يقترن اسمى بها، فهأنذا أُرضى فى نفوسهم غريزة حُب الاستطلاع، فأبسط بين أيديهم هذه القضية ـ قضية دِنشواى ـ التى يعلم الله أننى ما كُنتُ وحدى لأستحق هذه الشُّهرة السيئة التى خلفتها على هذه القضية، بل هناك كثيرون أولىَ وأحق بهذا الصّيت المُشيِن.
ويواصل ـ الهلباوى ـ مرافعته التى أودعها فى مذكراته:
ـ وقعت هذه الحادثة بناحية دنشواى فى يوم الأربعاء 13 يونيو 1906 وقد كنت فى هذا اليوم مسافرا من ـ مصرـ إلى عزبتى بناحية ـ سيدى غازى ـ بمديرية البحيرة قبل أن تقع هذه الحادثة بعدة ساعات، وبقيت هناك بقية هذا اليوم ويومى الخميس والجمعة التاليين، وكان السبب فى هذا السفر نزاع بينى وبين أحمد خيرى باشا الذى كان مديرا لديوان عموم الأوقاف، وفى الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 15يونيو حضر المستر أنتونى مدير مصلحة الأملاك الأميرية ومعه المرحوم محمد بك أباظة المفتش بها، وفى أثناء الحديث روى لى مستر أنتونى حادثة دنشواى التى وقعت يوم الأربعاء، وفى صباح السبت ركبتُ القطار الذاهب إلى طنطا وقد عزمتُ على أن أمُرّ بدنشواى لأقدم نفسى متطوعا للدفاع عن المتهمين فى الحادثة، ولما وصلتُ طنطا، علمتُ أن المحطة القريبة من دنشواى هى البتانون..
ويواصل ـ الهلباوى ـ وصف ما جرى بينه وبين ناظر محطة طنطا، الذى خوّفه من حرارة الجوّ وبُعد المسافة بين دنشواى والبتانون وقلة وسائل النقل، الأمر الذى جعل العلباوى يعدِل عن قرار السفر إلى دنشواى ويسافر إلى القاهرة ويقول:
ـ وعند وصولى إلى منزلى وجدت رسولا من قِبَل صاحب العُطوفة مصطفى فهمى باشا ناظر النظّار وقتئذٍ يدعونى إلى الداخلية حالا، فذهبت مع الرسول وقابلتُ صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا وكان يومئذٍ سكرتير مستشار الداخلية، وأخبرنى أن الداخلية ترغب فى انتدابى لأن أكون قائما بوظيفة ـ النائب العمومى ـ فى التهمة التى ستُرفَع أمام المحكمة المخصوصة، للمرافعة مع الحكومة ضد المتهمين من أهالى دِنشواى بالتعدّى على الإنجليز وقتل أحد الضباط وقال لى دولته:
ـ إن الحكومة اختارتنى لأننى الأكبر بين المحامين الموجودين سنّا وأقدميّةً.
وتذكّرتُ فى ذلك الوقت أن المحكمة المخصوصة التى قُدِّم إليها المتهمون فى حادث ـ قليوب ـ مثّل الاتهام فيها شيخ من شيوخ المحامين.
ويقول الهلباوى:
فى هذه المحكمة التى انعقدت وفى هذا الجمع تراتفعتُ بما أملاه علىَّ الواجب دون أن أتجاوز بكلمة واحدة، بل ربما أستطيع أن أعترف هنا بأن شعورى بوطنيتى وصل بى إلى حد لايتفق مع واجبى وذلك أنى دعوتُ لغرفتى فى ـ شبين الكوم ـ قبل يوم المرافعة حضرات الأساتذة المحامين عن المتهمين وهم: أحمد بك لطفى السيد ومحمد بك يوسف وإسماعيل بك عاصم، وأطلعتُهُم على كل النقط التى سأستند عليها فى دفاعى ضد المتهمين لكى لا يفاجأوا فى الجلسة، وترافعت فوق الثلاث ساعات ولم أَرَ من ذلك الجمع الغفير أىَّ اشمئزازٍ بنقد ما قلته بل عندما أمرت المحكمة برفع الجلسة ـ عقب مرافعتى ـ للاستراحة، قابلنى تقريبا كل الحاضرين بالتحية على ما أبديته من الدّفاع المتين فى القضية المذكورة.
ويختم ـ الهلباوى ـ دفاعه عن موقفه فى دنشواى بقوله:
ـ عند أول تطبيق لقانون المحاكم المخصوصة فى حادثة ـ قليوب ـ أُختير لتمثيل الاتهام فيها ـ المرحوم أحمد الحسينى بك ـ وكان أكبر المحامين الموجودين سنّا ومقاما، لذلك لم أجد مسوّغا يسمح لى برفض القيام بهذه المهمة، وقد طلبتُ تحديد أتعابى فقُدّرت ـ كما طلبت ـ بثلاثمائة جنيه، وقد اشترطت أن تكون مهمتى مقصورةً على الدفاع أمام المحكمة دون أن أشترك فى أعمال التحقيق، وبعد حديث بينى وبين المستر متشل مستشار وزارة الداخلية وعطوفة وزير الداخلية ورئيس النظار قبِل طلبى فى أن لا أتدخَّل فى التحقيق.
دفاع مهترئ
قضى ـ إبراهيم الهلباوى ـ حياته يبحث عن مبرر يسمح له بمحو آثار الجريمة التى اشترك فيها فى قرية دنشواى وهى القيام بدور النائب العمومى فى تهمة دبرها الاحتلال البريطانى ضد الفلاحين، فلجأ للكذب، وقارن نفسه بالمحامى أحمد الحسينى الذى أدى نفس المهمة فى حادث ـ قليوب ـ وهو حادث لم تحكم فيه المحكمة على الفلاحين فى قليوب بالموت والتعذيب بالكرابيج، بل حكمت بالحبس لمدد قصيرة لأن المعركة كانت بين أهالى قليوب وجنود بريطانيين عابرين، قذف الأهالى جنود الاحتلال بالطوب والأحجار، وكانت العقوبات خفيفة، لكن فى ـ دنشواى ـ كانت المعركة كبيرة، أحرق الجنود والضباط البريطانيون القمح فى الأجران وأصابوا امرأة، ومات أحدهم بضربة شمس، فاعتبر الاحتلال ما حدث جريمة لا يمكن التسامح مع مرتكبيها، وأقام ـ المحكمة والمشنقة ـ وسط بيوت القرية وجَلَد الفلاحين وأعدمهم أمام عيون الأهالى والأقارب والأعيان من كافة قرى المنوفية، وكأنها عملية ترهيب للناس، حتى لايكرروا ما جرى أو يُقدِموا على مقاومة جيش بريطانيا العظمى، ولايوجد فى ـ قانون المحاكم المخصوصة ـ نص يلزم أكبرالمحامين سنّا بقبول التكليف بمهمة “النائب العمومى” وهذا ينسف رواية ـ الهلباوى ـ المهترئة، وهو الذى قال إنه جاء من قريته لينضم لفريق الدفاع عن الفلاحين متطوعا، وبمجرد وصوله القاهرة وجد رسولا من رئيس الوزراء ووزير الداخلية ـ مصطفى فهمى ـ يطلبه فذهب معه إلى ـ عُطوفة رئيس الوزراء ـ وهناك عرض عليه ـ محمد محمود باشا ـ المهمة فوافق على الفور، وهو الذى ـ حسب روايته ـ كان يجهز نفسه للدفاع عن الفلاحين فى دنشواى متطوعا، ولم يذكر ـ الهلباوى ـ السبب الذى دعاه إلى تغيير عقيدته، من محامٍ وطنى راغبٍ فى الدفاع عن مواطنيه إلى “نائب عمومى” مهمته المطالبة بأقصى عقاب لتنفيذه فى هؤلاء المواطنين!
ولم ينس ـ الهلباوى ـ أن يذكر قيمة الأجرة التى حصل عليها مقابل القيام بدوره “نائب عمومى” فى دنشواى، وهو مبلغ ضخم للغاية بمقاييس أوائل القرن العشرين ـ ثلاثمائة جنيه ـ يشترى عدة أفدنة أرض زراعية، وهو نفسه الذى حدد المبلغ وأقرته الحكومة ووقف ـ المحامى الكبيرـ ثلاث ساعات يترافع ضد فلاحين حفاةٍ عراةٍ لايجدون اللقمة.!
والهلباوى ينتمى إلى أسرة فى قرية العطف بالبحيرة، لم تكن تملك سهما ولاقيراطا، فالجد جاء من المغرب وعمل فى مهنة “مراكبى” فى فرع رشيد، والأب اشترى مساحات محدودة من الأرض الزراعية، والهلباوى تعلم فى الأزهر سبع سنوات ولم يحصل على شهادة “العالِميّة” وعمل فى تجارة القطن، لكن الحقيقة التى ذكرها فى مذكراته هى أنه كان ضد الثورة العرابية وكان يعمل ضدها، وأنه أُختير ليكون سكرتير ـ محمد سلطان ـ رئيس مجلس النواب الذى خان العــرابيين ورفــض عــزل الخـــديو تـــوفيق مقـــابل عشــرة آلاف جنيــه وآلاف الأفـــدنة.. وـ الهلباوى ـ فى مذكراته يجاهر بعدائه للعرابيين ويفاخر بعمله مع “البرنس حسن” شقيق الخديو توفيق وعمله مع “سلطان باشا”، وهذا هو طريق الثروة والشهرة ولما عمل بالمحاماة وظف قدرته على الخطابة وما تعلمه فى الأزهر وما حصّله من جمال الدين الأفغانى من علوم المنطق والفلسفة ليصبح محاميا دون الحصول على شهادة من مدرسة الحقوق، وكانت المحاماة لا تستلزم الحصول على شهادة من الحقوق لكن تستلزم معرفةً بالقوانين والإلمام بالمنطق وامتلاك مهارة الخطابة والقدرة على التأثير فى القضاة، والهلباوى امتلك كل أدوات النجاح فى المحاماة لكنه رسب فى امتحان الوطنية منذ مائة وتسع عشرة عاما، عندما طالب بإعدام الفلاحين فى دنشواى فى يونيو1906 ليرضى عنه الاحتلال البريطانى وهذا ما حدث، رضى عنه الاحتلال وغضب عليه الشعب المصرى.